Pages

الثلاثاء، 9 ديسمبر 2014

قراءة في كتاب: في سوسيولوجيا الثقافة والمثقفين من سوسيولوجيا التمثلات إلى سوسيولوجيا الفعل الاجتماعي ومن منطق العقل إلى منطق الجسد (أو التطبع)، للأستاذ عبد السلام حيمر(1) إعداد: لشهب سفيان

يشتمل الكتاب الذي بين أيدينا([1]) على تقديم للأستاذ محمد سبيلا، وعلى قسمين، القسم الأول تحت عنوان: الثقافة والحداثة، ويحتوي على مدخل، وفصلين، أما القسم الثاني فقد جاء تحت عنوان: النخبة الثقافية، المثقفون والحداثة، ويضم هو الآخر مدخل وفصلين.



للتحميل بصيغة pdf اضغط هنا

القسم الأول: الثقافة والحداثة

مدخل (الفصل الأول):

يفتتح ذ. عبد السلام حيمر كتابه بقوله: "عندما نحاول التفكير في مفهوم مجرد كمفهوم الثقافة، فنحن لا نستطيع التفكير فيه إلا من خلال مقابلته بمفاهيم أخرى تدخل معه في علاقات يكتسب منها معناه ودلالته، لا في حقلي اللغة والفكر فقط، بل في سياق الحياة الاجتماعية أيضا.
من تلك العلاقات الدالة علاقة الثقافة بالطبيعة والغريزة، وبالفطري والمكتسب، وعلاقتها بالحضارة والمدنية، وعلاقتها بالأيديولوجيا، وبالتنشئة الاجتماعية، بالهوية والأصل والتضامن والاختلاف والتباين والصراع...إلخ" (ص:11)([2]).
وفي هذا الفصل سيقف صاحب الكتاب على تحليل أربع علاقات هي:
-      الثقافة/الطبيعة.
-      الثقافة/الهوية.
-      الثقافة/الأيديولوجيا.
-      الثقافة/والنخبة الثقافية، والمثقفون (ص:11).
ويقول ذ. حيمر بأن هذه العلاقات وفي سياق فحصها من وجهة نظر سوسيوجينيالوجية يتضح بأنه لا يمكن فهمها على اعتبارها ثنائيات، بل لابد من إضافة حد ثالث وهو الحداثة، فنصبح أمام ثلاثيات. فالمفاهيم السابقة الذكر لم تظهر إلا في سياق انبثاق الحداثة الغربية أي منذ القرن السادس عشر على الأقل، وتطورها خلال عصر الأنوار، فالقرن التاسع عشر، والقرن الماضي. لذلك لم تظهر كلمة "ثقافة"، وكلمة "أيديولوجيا" ولم تظهر "فكرة الطبيعة" سواء بمفهومها الوضعي العقلاني الرياضي والتجريبي (الدالة على الكون باعتباره نظاما مستقلا بذاته، نظاما من الأشياء والظواهر والسيرورات الخاضعة لقوانين سببية ضرورية، لا نحتاج معها إلى مبدأ خارجي غريب عن الأشياء والظواهر والسيرورات لتفسيرها)، أم بمفهومها الفلسفي والحقوقي والانساني (التي انحدر منها مفهوم حقوق الانسان والمواطن، وكل من التصورات الديمقراطية الحقوقية، والسياسية التي يتضمنها ويفضي إليها ذلك المفهوم، إلا في سياق تكون الحداثة في أوروبا بكل ما تتضمنه الحداثة من نزعة أنوارية إنسانية وزمنية. وما قلناه على الثقافة والأيديولوجيا والطبيعة، يصدق على موضوعات وكلمات ومشكلات كالنخبة الثقافية، والمثقف والمثقفين.
ومما لا شك فيه (يقول ذ. حيمر) أن اقتصارنا على تحليل حدود العلاقات الثنائية السابقة الذكر ــ تحليلا هاجسه تفكيك مفاهيم بحثنا وإعادة بنائها بناء واعيا في ضوء ما تراكم من نظريات ومقاربات منهجية في تاريخ الحقل الذي ننتمي إليه ــ سيمكننا أولا من تحديد أولي للثقافة، وسيمكننا ثانيا من مقاربة طبيعة الثقافة بوصفها آلة دمج للأفراد داخل جماعة اجتماعية ينتسبون إليها ويتماهون بها، لاشتراكهم جميعا في معاييرها وقيمها وقواعدها المشتركة، وسيمكننا ثالثا من مقاربة الكيفيات التي تتحول بها عناصر الثقافة في يد جماعة معينة إلى أيديولوجيا للكفاح من أجل السلطة والنفوذ (ص:13).

الفصل الأول: الثقافة والحداثة في الغرب وفي بلاد الاسلام


أولا: وضع كلمة ثقافة (في علاقتها بالحداثة) ودلالتها في الحضارة المغربية العربية الاسلامية.
إن كلمة الثقافة "تدل في اللغة العربية من الناحية الاشتقاقية على الفطنة والذكاء، أي على ملكات الادراك والتمييز والحكم التي ينفصل بها الانسان، وهو كائن طبيعي بالأصالة، عن الكون الطبيعي من حيوانات ونبتات وجمادات، أي من عجماوات بتعبير العرب القدامى، مكونا بذلك كونا آخر هو كون الصناعة والابداع والابتكار، والخلق والاكتساب والتهذيب والتطوير والتحسين...إلخ" (ص:15).
فالأشياء الطبيعية تكون معوجة في الأصل، وحسنها وجمالها ونظامها والاتقان البادي فيها، هو نتاج صناعة الصانع أو الفاعل، وهذا الأخير إما يكون إنسانا عاقلا متخيلا ومبتكرا، أو فاعلا متعاليا إلاهيا خالقا ومبدعا. والانسان ــ من حيث هو حيوان طبيعي ــ كائن معوج لا يقوم إلا بالعقل، ولا قوام للعقل إلا بالشرع ومن هنا فإن إنسانية الانسان واقعة مكتسبة، وليست فطرية في الانسان.
نخلص مما سبق إلى أن الدين في مجتمع كالمجتمع المغربي العربي الاسلامي، لا ينحصر مفعوله في مجال محدد من مجالات الحياة المجتمعية، بل يطال كل مجالات اشتغاله؛ لكن هذا لا يعني أن منطق الدين نجح دوما في الهيمنة على سلوك المجتمع وتاريخه، وهذا ما يبدوا في ازدواجية ثقافتنا وشخصياتنا، فنحن نعيش منذ قرون بثقافة دنيوية تاريخية، مجال العرف/والعقل، وثقافة دينية لاهوتية مقدسة، مجال الشرع/والنقل... ثم إن شخصيتنا الأساسية المشتركة بتعبير رالف لينتون، شخصية مزدوجة تتراكب فيها لاشعوريا شخصية الانسان الديني الطامح دوما إلى التطابق مع مثل الشرع وقواعده، وشخصية الانسان الزمني التاريخي الذي يخضع سلوكاته ومواقفه لموازين القوى العينية بين مصالحه ومطامحه، ومصالح الآخرين ومطامحهم، متخذا من الوسائل ما يراه ملائما مع مصالحه في الحال والمآل، وإن تناقضت مع القواعد، بما فيها قواعد الشرع (ص:16).
بعد هذا يخلص ذ. حيمر إلى القول بأن التقائنا بلفظي ثقافة ومثقف هو حديث النشأة لارتباطه بصدمة الحداثة، وسيرورة التحديث الاضطراري والارادي معا، وباتساع المجال الزمني في حياتنا الاجتماعية العملية اتساعا كبيرا. هذا الالتقاء هو ما يجعل اللفظين معا لا يأخذان معناهما الكامل إلا بالعودة بهما إلى سياق الخطاب الأوروبي الغربي المعاصر.


ثانيا: وضع كلمة ثقافة (في علاقتها بالحداثة) ودلالاتها في الحضارة الأوروبية الغربية.
إذا عدنا إلى لفظ ثقافة culture في الغرب، وفي الفرنسية على وجه التحديد فسنجده يشير إلى حقلين دلاليين متمايزين هما: حقل الفلاحة والانتاج الفلاحي وثمرات ذلك الانتاج فهي مشتقة من أصل لاتيني قديم هو cultura  التي تعني فلاحة الأرض من جهة، وحقل العبادة الدينية culte  وطقوسها وقواعدها من جهة أخرى (ص:19). ولفظة ثقافة قد استعملت وراجت في القرن 18 متبوعة بخبر: ثقافة العلوم، وثقافة الآداب وثقافة الفنون، إلى الحد الذي أصبحت معه رمزا لفلسفة الأنوار.
إنها حركة ارتقاء من الطبيعة إلى المدنية، وخروج من ديجور الحيوانية والتوحش والغريزة، وولوج لأنوار العقل والتقدم.
إن التفكير في الثقافة على النحو الذي يجعل من الانسان مبتدأ وخبرا في الآن نفسه، قد حدث في الثقافة الغربية بعد حدوث قطيعة إيبستيمولوجية بين الرؤية الانسانية التي ناضل من أجلها فلاسفة عصري النهضة والأنوار، الرؤية التي تقر بنسبية الحقيقة، والحق في الاختلاف، وبحقوق الانسان الطبيعية التي لا تقبل التفويت.
من هذا المنطلق جاءت أسطورة الرسالة الحضارية الملقاة تاريخيا على الغرب باعتباره يمثل أقصى درجات تطور المجتمعات، فظهر الاستعمار والاستشراق، وأنتجت علوم لدراسة ثقافات الغير كالاثنوغرافيا والأنثربولوجيا والاثنولوجيا، وتكونت صورة مفادها أن المجتمعات تتطور في خط مستقيم؛ تمثل المجتمعات الغربية أعلى درجات التطور والتقدم في ذلك الخط، ومن هنا وجب على تلك الثقافات أن تتبع مسار المجتمع الغربي.
وحتى الماركسية تبنت هذا المذهب (المذهب التطوري)، فإذا كانت الثقافة تعني في الماركسية مختلف مكونات البنية الفوقية وتعبيراتها المؤسساتية، وكانت البنية الفوقية انعكاسا في نهاية التحليل للبنية التحتية، وكانت التشكيلات الاجتماعية تتطور عبر سلسلة من القطائع والإستمرارات، من الأدنى إلى الأعلى، لتصل إلى أعلى وأعقد أشكالها في المجتمع الصناعي الأوروبي الرأسمالي الحديث، فإن البنية الفوقية الأكثر تطورا هي بنية المجتمع الصناعي الأوروبي الرأسمالي بالقياس إلى أشكال المجتمعات ما قبل الرأسمالية، ثم بنية المجتمع الاشتراكي الأوروبي، بالقياس إلى المجتمع الرأسمالي (ص:22).
خلال القرن 19 ظهر تيار فكري جديد اتجه إلى الدراسة الوضعية للثقافات والمجتمعات المختلفة في العالم دراسة وصفية، لا تأبه بمظاهر التقدم أو التأخر بين هذه الثقافة أو تلك، ولعل تايلور Taylor  هو أحسن من يمثل هذا التيار الذي أقلع عن التفكير وفق مقولة التقدم الموروثة عن عصر الأنوار الأوروبي.
ويعرف تايلور الثقافة في كتابه الثقافة البدائية (1871) على النحو التالي: الثقافة أو الحضارة بالمعنى الاثنوغرافي الواسع هي: هذه المجموعة المعقدة التي تشمل المعارف والمعتقدات والفن والقانون والأخلاق والتقاليد وكل القابليات والتطبيقات الأخرى التي يكتسبها الانسان بوصفه عضوا في مجتمع ما (ص:23).
وفي هذا السياق ظهرت أبحاث كلود ليفي شتراوس التي أرجعت الثقافات كلها على ما بينها من تباين واختلاف إلى الوظيفة الرمزية للعقل البشري وبانبثاقه في الوجود الطبيعي انبثق الانسان بوصفه كونا ثقافيا خاضعا للقواعد، وأولاها تحريم سفاح المحارم. تلك العملية التي أصبح فائض النساء من خلالها قيمة تبادلية لنصبح أمام وجود للإنسان الاجتماعي وجودا تواصليا رمزيا بأبعاده الثلاثة: اللغة "التواصل الرمزي"، والسلعة "التواصل الاقتصادي"، والمرأة "التواصل الاجتماعي" (ص:24).
هكذا نجد بأن العقل بقواعده هو مؤسس الوجود الثقافي للإنسان والمميز له عن الطبيعة، فلا مجال للقول حسب شتراوس أن هناك شعوبا وثقافات ما قبل منطقية وأخرى منطقية، بل لكل ثقافة منطقها الخاص الذي هو انعكاس في الزمان والمكان لبنية العقل الانساني الكلي.

في هذه الفقرة وتحت هذا العنوان يناقش ذ. حيمر العولمة وكيف أصبح العالم بشكل تدريجي يتشكل وفق قواعد نظام اجتماعي واقتصادي وسياسي جديد هو النظام الرأسمالي، هذا النظام الذي أصبح الانسان بموجبه إنسان البعد الواحد إنسان الحاضر الذي ليس له هم سوى الربح، وهذا في نهاية التحليل ما هو إلا انعكاس لتجليات البنية الفوقية بالتعبير الماركسي، انعكاس لثقافة الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات. إن النظام الرأسمالي في ظل العولمة والتقدم على مستوى وسائل المواصلات والاتصال يعمل على صهر المجتمعات في ثقافة مشتركة لا تبالي بالحدود الجغرافية، وهذا ما يؤدي إلى الحديث عن الخصوصية الثقافية فأصبحنا نشاهد حمامات دم باسم الله، وباسم الدين واللغة والعرق، كما بتنا نشاهد دعوة قوية من أجل الرجوع إلى الأصل، سواء كان أصلا دينيا، عرقيا أو لغويا.
هكذا إذن يصور لنا صاحب الكتاب حالتين يكون فيهما الانسان مستلبا ويعيش وفق بعد واحد، فهو الانسان الذي تفرض عليه ثقافة العولمة عيش الحاضر وعدم الالتفات إلى الماضي، كما تفرض عليه قيم الربح والمنافسة واقتناص الفرص والجري وراء المصالح، فمقياس الكفاءة هو الغنى وعدم الكفاءة هو الفقر؛ وهو الانسان ذو البعد الزمني الواحد الذي يرى (بل وتفرض عليه الرؤية) في الرجوع إلى الأصل الذهبي للأمة مفتاحا للخلاص في الدنيا والآخرة، فيعيش في الماضي غير مبال بالحاضر وخائف من المستقبل، كما يبني مواقف عدائية اتجاه الاخر الذي هو في نظره رمز للشر.
الحل حسب ذ. حيمر لا يكمن في نشر ثقافة عالمية رأسمالية ليبرالية متوحشة، بل في نشر ثقافة الديمقراطية والعقلانية والمساواة في المنافع بين جميع بني البشر، وليس الحل كذلك في الانغلاق والتشبث بالثقافة الخاصة بل في التوجه نحو الآخر بصدر رحب لتقبل اختلافه، فنصبح عندئذ أمام مجتمع تسود فيه الكونية الانسانية جنبا إلى جنب مع الخصوصية الثقافية. 

إن صعوبة تحديد مفهوم الثقافة واستعصائه على التعريف يدل عليه بشكل دقيق إحصاء التعريفات التي قام بها كل من كلكهوهن وكروبر، حيث قام هذان الباحثان بإحصاء حوالي 160 تعريفا لكلمة ثقافة. غير أن أقرب الحدود التي وضعت للثقافة إلى الدقة والشمول هو التعريف الذي وضعه عالم الاجتماع الكندي غي روشيه Guy Rocher ، عندما ذهب إلى القول بأن الثقافة: منظومة رمزية للتواصل بين أفراد الجماعة الاجتماعية كيفما كان حجمها، مثلها في ذلك، مثل أحد مكوناتها وهو اللغة. إنها أيضا منظومة للانتساب والانتماء إلى هويات، تعمل الثقافة على إنتاجها والمحافظة عليها وتكريسها. إنها القالب الذي ينصهر فيه أفراد الجماعة انصهارا يكسبهم سمات وخصائص مشتركة من التفكير والإحساس والفعل؛ ذلك أن الثقافة مجموعة مترابطة من كيفيات التفكير والإحساس والفعل، المتشكلة إلى هذا الحد أو ذاك، والتي تصلح لأن تكون من الأشخاص الذين يتعلمونها ويشتركون فيها جماعة خاصة ومميزة. من هنا يتضح أن الثقافة تتسم بالسمات الأربع التالية: النسقية، والتشكل، والتشارك، والاكتساب (ص:31ـ32).

الفصل الثاني: في جينيالوجيا الثقافة والأيديولوجيا والمثقفين والحداثة

إذا كان ظهور كلمة ثقافة قد ارتبط بالحداثة فإن كلمة أيديولوجيا ظهرت هي الأخرى في السياق ذاته، وإذا كانت الثقافة تدل على مختلف الوسائل الجماعية التي يكتسبها الانسان من جماعته والتي يتمكن بها من السيطرة على ذاته وعلى الطبيعة، سيطرة تقوده نحو تقدم مضطرد، فإن كلمة أيديولوجيا ظهرت مع جماعة أنطوان ديستوت دو تراسي Antoine Destutt de Tracy  في أجواء الثورة الفرنسية الكبرى، لتدل على علم وضعي جديد يكون موضوعه هو الفكر البشري ذاته، أي الدراسة النقدية المنظمة للآليات التي بها تولد الأفكار، وتترابط ترابطا يفضي إلى تكون المعارف والمذاهب ورؤى العالم في الفكر البشري (ص:37).
إن العقل ــ في نظر جماعة الأيديولوجيين ــ هو الذي يحكم العالم، والأفكار الصحيحة المنبثقة في العقل من التجربة الحسية هي التي تصنع الوقائع والأحداث وتحركها من حسن إلى أحسن (ص:37). من هذا المنطلق وجب تحرير العقل من كل الأوهام التي تكبحه، أي الأوهام اللاهوتية والميتافيزيقية التي تجعل الأفكار التي يؤمن بها الانسان غير مطابقة للواقع.
إن الإشكال الذي اهتمت به الأيديولوجيا منذ نشأتها باعتبارها فرعا من فروع المعرفة هو تفسير مختلف الشروط والآليات التي تتحكم في إنتاج المعرفة، وتبيان العوامل الكامنة خلف هذا التناقض بين ما تحتوي الأذهان من أفكار، وما يوجد في الأعيان من وقائع (ص:38).
يتضح إذن أن كلا من الثقافة و الأيديولوجيا يلتقيان في كونهما ظهرتا في سياق سيرورة الحداثة الأوروبية الغربية. 

أولا: دلالات كلمة أيديولوجيا

الفكرولوجيا أو علم الأفكار أو الدراسة التحليلية النقدية للأفكار، هذه هي المقابلات العربية للكلمة الفرنسية أيديولوجيا، أما أدلوجة (من أدلج الليل إذا أظلم وادلهم) فقد نحتها عبد الله العروي للدلالة على هذا المعنى الأساسي للأيديولوجيا، وهو معنى الإخفاء والتغييب والتزييف والانخداع بالظاهر، وعدم مطابقة ما في الأذهان لما في الأعيان (ص:39).
الأيديولوجيا إذن هي قناع يخفي ويزيف ويغيب، قناع يخفي قانون التقدم التاريخي في نظر ماركس بسبب تعارض ذلك القانون مع مصالح البرجوازية... وقناع لقانون الحياة في نظر نيتشه، وقناع لقانون الرغبة في نظر فرويد... من هنا كان من اللازم إنشاء علم للأفكار يمكننا من تفسير لماذا تنقسم المعرفة البشرية إلى تلقائية سطحية (الأيديولوجيا)، ونقدية عميقة (العلم).
وهكذا نكون في الحالة الأولى أمام الأيديولوجيا بوصفها قناعا، وفي الحالة الثانية أمام الأيديولوجيا وهي تشتغل كنظرية في المعرفة والإيبستيمولوجيا، أما الحالة الثالثة والأخيرة فإن الأيديولوجيا تبدو ــ بحسب العروي ــ على شكل رؤية كونية، رؤية للعالم تسود في عصر من العصور، وتشكل أفقا فكريا لا يستطيع تفكير الناس خلال ذلك العصر تخطي حدوده (ص:40).
وفي هذا الإطار يدرج صاحب الكتاب اسم مفكر مغربي آخر وهو محمد سبيلا من خلال كتابه الأيديولوجيا: نحو نظرة تكاملية؛ حيث من خلال تحليله لعلاقة الأيديولوجيا بالمجتمع ينبه إلى كون الأيديولوجيا بمعناها الواسع تشير إلى نفس ما تشير إليه الأنثربولوجيا الثقافية بلفظ ثقافة، إلا أنها تشير إلى الثقافة التلقائية للمجتمع أو إلى ما يدعوه دوركايم بالوعي الجمعي.
الأيديولوجيا في نظر ذ. سبيلا هي عبارة عن حكاية تسعى إلى أن تقدم للمجتمع صورة عن نفسه عبر سيرورة التاريخ انطلاقا من حدث/أصل تحرص على أن تبرهن على أنه الأساس المكين الذي يدعم وجود الأمة المشترك، ويشكل هويتها الأصيلة. وبهذا المعنى تقوم الأيديولوجيا في المجتمعات الحديثة بما قامت به الأسطورة في الجماعات القديمة، ومن هنا العلاقة الوطيدة بين الأسطورة والأيديولوجيا لا من حيث الوظيفة والدور فحسب، بل من حيث البنية أيضا (ص:43).
نصل الآن مع ذ. حيمر إلى القول بأن الأيديولوجيا وإن كانت لفظا ومبحثا لم تصبح موجودة إلا في نهاية القرن 18، فإنها بوصفها ظاهرة اجتماعية واقعية، إنما هي ظاهرة قديمة موغلة في التاريخ، ملازمة للكائن البشري شأنها في ذلك شأن الثقافة (ص:44).

ثانيا: الأيديولوجيا والثقافة بين الاتفاق والاختلاف، والفصل والوصل

يلتقي مفهوم الأيديولوجيا بالثقافة في كونهما شموليان يجمعان الفردي والجماعي، ويطال تأثيرهما كل مستويات الوجود الاجتماعي للإنسان، وكلاهما مكتسبان لا فطريان، وكلاهما يشكلان منظومة فكرية معيارية تشتغل بوصفها منظومة رمزية للتواصل من جهة وللانتماء من جهة أخرى، لكن الالتقاء لا يعني التطابق، حيث أن الثقافة تضم الأيديولوجيا باعتبارها عنصرا من عناصرها لكنه عنصر أساسي إنه النواة أو البؤرة الصلبة الفاعلة للثقافة، كما أن فعل الثقافة يوحد أكثر مما يقسم، على عكس الأيديولوجيا التي تقسم أكثر مما تجمع. وفي هذا وذاك يلعب المثقف دورا أساسيا.

ثالثا: من الأيديولوجيا والثقافة إلى المثقف والمثقفين

يقودنا كل حديث عن الثقافة والأيديولوجيا داخل المجتمعات البشرية بالضرورة إلى الحديث عن المثقف بوصفه نموذجا نظريا، سوسيولوجيا وفلسفيا، وعن المثقفين والنخبة الثقافية باعتبارهم مقولة سوسيولوجية (ص:45).
من الذي يحافظ على الإرث الثقافي، ينتجه ويعيد إنتاجه، ويوظفه في كافة مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية...؟
بطبيعة الحال إنه الانسان بوصفه فاعلا اجتماعيا وناتجا من الفعل الاجتماعي في الآن نفسه، وبهذا المعنى يكون جميع الناس مثقفين... لكن (يتساءل ذ. حيمر) لماذا نخص فئة ونخبة معينة وننعتها بالمثقفين، ونختص فردا بنعت مثقف؟ ومن هو هذا المثقف؟ وكيف نستطيع التعرف عليه؟

القسم الثاني: النخبة الثقافية، المثقفون والحداثة

مدخل: جينيالوجيا المثقفين والحداثة: في الغرب، وفي دار الإسلام

إذا كان كل إنسان بالتعريف مثقفا ولا يمكن أن يكون إلا كذلك، فإن كلمة مثقف ومثقفين لا تستعمل عادة بهذا المعنى الواسع بل تستعمل بمعنى ضيق، إما للدلالة على فرد نمطي مجرد، يتحدد بوعيه ومواقفه وخطابه، فضلا عن شروطه السوسيوتاريخية أو للدلالة على جماعة اجتماعية، تتميز عن غيرها بسمات وخصائص في الفضاء الاجتماعي (ص:49).
من المعلوم أن لكل مجتمع ومنذ القدم خبرائه وأدباءه وفنانوه، ومؤرخوه... ولكن لا أحد نعث هؤلاء بالمثقفين وهذا يدل على أن المثقف يتميز عن غيره من هؤلاء بمميزات أخرى... ويقول ذ. حيمر بأن المثقف مفردا وجمعا، لم يظهر كلفظ لا في الحضارة الاغريقية ولا في الحضارة العربية الكلاسيكية، ولا في أوروبا القرون الوسطى، بمعنى أن كلمة مثقف لم تظهر إلا بعد استقلال الحقول عن بعضها نسبيا ومن بينها الحقل الثقافي (ص:51).

الفصل الثالث: المثقفون نخبة ثقافية جماعة اجتماعية ووظيفة ثقافية

أولا: التقليد الماركسي

يبتدأ صاحب الكتاب هذا الفصل بالحديث عن ماركس وإينغلز من خلال الكتاب الذي نشر بعد وفاتهما "الأيديولوجية الألمانية"، هذا الكتاب الذي جاء كانتقاد للطرح الهيغيلي في مستوييه، أي الهيغيليين الشيوخ والشباب، حيث يقول صاحبا الكتاب بأن الوجود المادي هو الذي يحدد الوعي وليس العكس (وهذا يذكرنا بأطروحات ماركس حول فيورباخ)، بمعنى أن الانسان هو وليد شروطه الاجتماعية لكن دون السقوط في الحتمية، فالإنسان يمكنه تغيير تلك الشروط لأنه هو من أنتجها.
فالإشكالية الأساسية التي ينتظم خطاب الأيديولوجية الألمانية وأطروحات فيورباخ حولها، تكمن بالضبط في البرهنة على دور الفاعلية البشرية في تغيير الواقع، وتعديل وتثوير بنياته (ص:58)، الشيء الذي يعني بأن البشر هم نتاج ممارساتهم وفاعليتهم وبراكسيسهم. من هنا يقوم ماركس وإينغلز برسم صورة للبشرية يحاولان من خلالها توضيح كيفية ظهور الملكية والمصلحة الفرديتين وكيفية انبثاق الدولة لحماية المصلحة العامة، كما يحاولان توضيح آليات امتلاك وسائل الانتاج وبالتالي امتلاك السلطة ابتداء من ملكية المرأة إلى ملكية وسائل الانتاج الحديثة؛ وفي كل مرحلة تظهر في المجتمع فئتين، إحداهما تختص بالعمل اليدوي المادي، والأخرى تختص بالعمل الفكري الذهني، وهي فئة الأيديولوجيين الذين تكمن وظيفتهم في إنتاج تصور العالم وفق مصالح الطبقة السائدة. وقد يبدوا أن هناك تنافر بين هاتين الفئتين نظرا لاختلاف التخصصات، لكن (يقول ماركس وإينغلز) بمجرد ما تتعرض مصالح الطبقة السائدة إلى الخطر من طرف الطبقات الأخرى، يسود التضامن والانسجام بين جناحي تلك الطبقة: المادي الاقتصادي، والفكري الأيديولوجي (ص:70).
إن أيديولوجيي الطبقة السائدة يقومون بمهمة التضليل والتعتيم على الطبقات المسودة، ويفرضون رؤية أحادية على المجتمع، رؤية معينة للعالم بموجبها يتم الحفاظ على الوضع القائم وإعادة إنتاجه. لكن الطبقات المسودة قد حان وقت انعتاقها نظرا لتشكل الطبقة العاملة التي عليها أن توضح بأن مطالبها ليست طبقية ضيقة وإنما هي كونية إنسانية، كما أنها لن تقوم بتعويض نظام طبقي بآخر بل هي ستقضي على المجتمع الطبقي باجتثاثه من جذوره أي بالقضاء على الملكية الفردية لوسائل الانتاج، وهنا تكمن وظيفة أيديولوجيي الطبقة العاملة الذين يسميهم ماركس بالأيديولوجيين الثوريين الذين يقومون بنشر الوعي الطبقي، وتبيان أن مصالح الطبقة العاملة هي مصالح إنسانية كونية.
نخلص إذن، إلى كون النظرية الماركسية (رغم كون ماركس وإينغلز قد حاولا توضيح بأنهما استقياها من تحليل التاريخ)، قد تحولت في نهاية التحليل إلى رؤية خلاصية طوباوية للتاريخ تجعل من هذا الأخير متجها في مسار تطوري، لا تعمل الارادة والوعي البشريين إلا على حجزه وإبطاء وتيرته وعرقلته، إذا كان في غير صالح من يمتلكون ذلك الوعي، أما إذا كان في صالحهم فإنهم يعملون على تسريعه (ص:72)، كما يصبح الأيديولوجيين الثوريين أنبياء وقديسين لهذه الديانة الجديدة. وهذا في نهاية المطاف هو الأساس الإيبستيمولوجي الذي ينطلق منه ماركس في هذه القضية، أي الرؤية الحتمية التي طبعت النزعة الوضعية العلمية للقرن 19.
ورغم كون ماركس وإينغلز لم يتحدثوا عن مثقف أو مثقفين فإنهم تحدثوا عن أيديولوجيين بوصفهم فئة اجتماعية مختصة بالعمل الذهني الفكري، وبكونها فئة متميزة عن المجتمع وعن المختصين بالعمل اليدوي المادي الاقتصادي.
ومنذ الأيديولوجية الألمانية المعاصرة توالت اجتهادات الماركسيين وتعددت، فيما يتعلق بتحديد المثقفين سوسيولوجيا داخل المجتمع الحديث، من حيث علاقاتهم بالطبقات الاجتماعية وبالدولة وببنيات المجتمع المادية منها والأيديولوجية، ومن حيث أدوارهم ووظائفهم وأنماط عيشهم وخصائصهم السيكولوجية (ص:72ـ73).
وهكذا نجد بأن كل من كاوتسكي ولينين قد اعتبرا المثقفين جماعة اجتماعية تنتمي إلى البرجوازية الصغرى، بحكم موقعها في علاقات الانتاج الرأسمالية السائدة ونمط عيشها وقيمها، وخصائصها السيكولوجية (ص:87)، فالمثقف يتحدد بعلاقاته الطبقية مع الطبقتين الأساسيتين في المجتمع الرأسمالي الحديث، أولا مع البروليتاريا، وثانيا مع الطبقة البرجوازية. ومن زاوية النظر هذه يقع المثقف من حيث مستوى عيشه في صف البورجوازية، ويتعارض مع البروليتاريا (ص:73).
أما الشاعر لويس آراغون، فيرى بأن المثقفين ينتمون إلى الطبقة العاملة وذلك لكونهم يعيشون ببيع عملهم الفكري، ومن هنا تحكمهم نفس العلاقات التي تحكم الطبقة العاملة في علاقتها بالطبقة البورجوازية المسيطرة، وما التناقض الذي يظهر بين فئة المثقفين والطبقة العاملة إلا تعارض ناجم عن وعي مستلب، غير مطابق لدى المثقفين كما لدى الطبقة العاملة، فهو تناقض ذاتي لا يستند إلى أساس واقعي. وينجم عن هذا الموقف أن المثقف لا يمكنه أن يكون إلا يساريا (مهما كان أصله الاجتماعي) ما دامت قضاياه ومصالحه هي قضايا ومصالح الطبقة العاملة ذاتها (ص:87).
وبتبنيه نفس الأساس النظري الماركسي سيقوم ميكاييل لوي في أطروحته الشهيرة عن لوكاتش بعنوان سوسيولوجيا المثقفين الثوريين: تطور لوكاتش السياسي من 1909 إلى 1929، بتأسيس ما سماه بـ "سوسيولوجيا ماركسية للأنتلجنسيا الثورية" أوضح من خلاله تواجد ثلاث فئات من المثقفين، هم: المثقفون اللارأسماليين، والمثقفون الرأسماليين، ويتوسطهم المثقفون التوفيقيون الانتقائيون. غير أن ما كان يهم لوي هي فئة المثقفين اللارأسماليين وكيفية تشكلهم، وهذا ما دفعه إلى اعتبار لوكاتش حالة باراديغماتية لأنه يمثل في نظره مثالا على تطور مثقف نوعي من وضع فكر معادي للرأسمالية (بسبب الموقف السائد آنذاك منذ غزو بونابارت لألمانيا) إلى وضع فكر اشتراكي واقعي.
ما يخلص إليه ذ. حيمر هو كون المنطلق النظري بالنسبة لكل هؤلاء هو ما كتبه ماركس في الأيديولوجيا الألمانية والبيان الشيوعي، ومقدمة في نقد الاقتصاد السياسي، بيد أن تأويلات تلك النصوص اختلفت باختلاف الشروط التاريخية والملابسات السياسية والمناخات الثقافية للمؤولين المجتهدين، فالنصوص الماركسية ستصبح مع مرور الزمن مؤسسة للقول الشرعي، وللحقيقة الشرعية، وذات سلطة رمزية، تتنافس أجيال الأتباع في احتكارها والتماهي بها، وإقصاء بعضهم البعض من حق امتلاك النطق باسمها، وكأننا هنا أمام ممارسة دينية وقد اكتست مسحة دنيوية (ص:88)
يتبع...



[1]- الدكتور عبد السلام حيمر: في سوسيولوجيا الثقافة والمثقفين من سوسيولوجيا التمثلات إلى سوسيولوجيا الفعل الاجتماعي ومن منطق العقل إلى منطق الجسد (أو التطبع). الشبكة العربية للأبحاث والنشر. الطبعة الأولى، بيروت، 2009. عدد الصفحات: 303.
[2] - كل الإحالات هي لصفحات الكتاب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق