ثانيا: التقليد المانهايمي، المثقفون اللامنتمون اجتماعيا
إن تحديد المثقف لدى مانهايم هو ناتج من تحليله للعلاقة
المزدوجة التي تربط الأيديولوجيا بالطوبى من جهة، وتربطهما معا بالواقع الاجتماعي
للجماعات المتصارعة من أجل الانتصار لمصالحها في مجال توزيع السلطة والثروة من جهة
أخرى.
وتحليل هذه العلاقة إنما يتم في إطار أعم هو تحليل مانهايم السوسيولوجي
لعلاقة الثقافة بالمجتمع، مؤكدا أن المجتمع يحدد الثقافة فلا يقتصر أثره على
مضامينها ومحتوياتها، بل يمتد ذلك الأثر إلى أشكالها وأجناسها، وأن العلاقة بينهما
ليست علاقة سببية على نحو ما ذهب إليه ماركس، بل علاقة وظيفية (ص90). ومن هذا
المنطلق جاءت دعوة كارل مانهايم إلى ضرورة دراسة طرائق التفكير وأساليبه عبر علم
جديد، هو علم اجتماع المعرفة (ص:91).
لكن لماذا جاءت دعوة مانهايم بتأسيس علم اجتماع للمعرفة
وليس علم نفس؟ رغم أن الفكر والتفكير هو نشاط فردي في ظاهره إلا أنه اجتماعي مثله
مثل اللغة، وطرق وأساليب التفكير هي سابقة على الوجود الفردي. والفكر عند مانهايم
ينقسم إلى أيديولوجي وطوباوي، حيث أن الأفكار الأيديولوجية تعمل على تبرير وإعادة
إنتاج الواقع القائم، في حين تعمل الأفكار الطوباوية على التبشير بنظام جديد
مستقبلي. والأيديولوجيا هي الأخرى يستعملها مانهايم بمعنيين، معنى خاص أي
أيديولوجيا فرد أو فئة معارضة لفئة أخرى، ومعنى عام أي أيديولوجيا عصر أو طبقة في
عصر من العصور. ويقول مانهايم بأن الفئة السائدة هي من تحدد ما يعتبر طوبى، بينما
تحدد الفئة المسودة ما يعتبر أيديولوجيا ومن هنا تكون أفكار الفئة السائدة هي الأيديولوجيا
بينما أفكار الفئة المسودة هي الطوبى. وبهذا المعنى لا يكون تاريخ المجتمعات
البشرية إلا تاريخ تعاقب مستمر بطلاه هما: النظام الاجتماعي القائم (Topia) والطوبى (Utopia). تلك
الطوبى التي تتحول بواسطة الثورة إلى نظام اجتماعي قائم جديد هو نفسه يحبل بطوبى سرعان
ما تتحقق بثورة تتمخض عن نظام اجتماعي بديل.
هكذا تنفتح نظرية مانهايم عن علاقة الأيديولوجيا بالطوبى
وبالواقع، على رؤية تطورية للمجتمع وتاريخه كما تنفتح على اشكالات مهمة من قبيل
مسألة الموضوعية في المعرفة، ومكانة ودور المثقفين في المجال المعرفي والاجتماعي
(ص:99)، ففي حالة السكون أي عندما يكون المجتمع راكدا وثابتا فإن فئة المثقفين
تضطلع بمهمة التعبير عن أفكار ومصالح الطبقة السائدة المالكة للسلطة فتعمل على نشر
تمثلات ورؤى العالم الخاصة بفئة المسيطرين وتجعل من تلك الرؤى كما لو كانت هي
الوحيدة الممكنة، لكن وبمجرد حدوث حركة عمودية قوية مؤدية إلى حركة هبوط وصعود بين
أفراد الطبقات الدنيا والعليا، وهو ما ينجم عنه تلاقيا واحتكاكا بين أساليب وطرق
التفكير الطبقية المتباينة في كل فئة اجتماعية من فئات المجتمع بحيث يفكر أفرادها
في الموضوع الواحد بأسلوبين متضادين، حتى تنهار ثقة الناس في إطلاقية وخلود، وصحة
أساليب تفكيرهم ومعاييرهم (ص:104). وهنا تظهر فئة أخرى من المثقفين هم أولئك الذين
يعمدون تحرير الناس من الرؤى الأحادية للعالم. وقد حدث هذا في التاريخ الفكري
مرتين، الأولى مع السفسطائيين، والثانية مع انهيار المجتمع الاقطاعي القروسطوي.
أما المجتمع الحديث وعكس أشكال المجتمعات القديمة فقد قام على أساس تمايز اجتماعي
قوي، أعاد صياغة الفضاء الاجتماعي على أساس مبدأ التنافس بدلا من الاحتكار،
والطبقة المفتوحة بدلا من الطائفة المغلقة؛ وهنا ظهرت فئة مالكي الرأسمال
الاقتصادي، وفئة مالكي الرأسمال الثقافي، وهؤلاء الأخيرين هم من أصول اجتماعية
مختلفة ومتباينة. ومن هنا يعتبرهم مانهايم جماعة لا طبقية نسبيا (ص:108).
لكن المرتبة الاجتماعية الوسطى لهذه الفئة ــ فئة
المثقفين ــ تجعلهم (بحكم أصولهم المختلفة وتربيتهم وتكوينهم المشترك) متذبذبين
بين طبقات وتيارات المجتمع الثقافية والسياسية، لكنهم رغم ذلك فئة تطفو فوق المجتمع.
والمثقفون بهذا المعنى بمثابة حراس للبشرية ينيرون طريقها الذي تحجبه ظلمات
الأيديولوجيا وأحقاد الطوبى، وتشدد الأحزاب ذات الرؤى الضيقة والمصالح الأنانية.
وفي حالة عدم قيامهم بهذا الدور يسود ليل دامس تلفه ظلمة حالكة (ص:109).
ثالثا: سان سيمون والمثقفون الوضعيون
إن سان سيمون هو أول من استخدم كلمة مثقفين في صيغة اسم
لا في صيغة نعت، وذلك للإشارة إلى فئة جديدة من فئات النخبة الثقافية التي تكتسب
عيشها بتخصصها في الانتاج الفكري والنظري، وتتكون هذه الفئة التي انبثقت على مسرح
التاريخ الاجتماعي بانبثاق المجتمع الصناعي الوضعي، من العلماء العصريين المتخصصين
في العلوم الحقة من فيزيائيين وكيميائيين، وفيزيولوجيين ورياضيين وهي تتكون إلى
جانب رجال الدين الذين سادوا خلال طفولة البشرية والمرحلة اللاهوتية من جهة، ورجال
القانون والفلاسفة الميتافيزيقيين الذين سادوا خلال مراهقتها ومرحلتها
الميتافيزيقية من جهة أخرى، ما يمكن تسميته بالنخبة الثقافية التي تخصصت كما
أسلفنا في الانتاج النظري والفكري بغية إيجاد حلول لمشاكل المجتمع (ص:112).
والذي يجعل سان سيمون يدخل الأدباء والفلاسفة ورجال
القانون في فئة المثقفين الوضعيين هو أنهم عملوا على الكشف عن لا شرعية النظام
الاقطاعي رغم أن فكرهم كان سلبيا، بمعنى أنه يحسن التفكيك والتقويض ولكنه فكر عاجز
عن إعادة الجمع والبناء، واقتراح البدائل المجتمعية، وهذا ما كشفت عنه الثورة التي
انبثقت من رحم هؤلاء الفلاسفة الميتافيزيقيين والأدباء، بمعنى أنها ثورة قوضت أركان
النظام الاقطاعي لكنها أدخلت المجتمع في دوامة من العنف التي ينبغي إنهاؤها، وهذا
لن يتم في نظر سان سيمون إلا إذا تخلص القرن 19 من سيطرت النقد التي سادت خلال
القرن 18، ليصبح القرن 19 قرن البناء وإعادة التنظيم الاجتماعي (ص:114). إنه قرن
العلماء الوضعيين الذين بمقدورهم قيادة المجتمع قيادة جيدة، يقول سان سيمون في هذا
الصدد بأن "قيادة المجتمع باتجاه إعادة تنظيمه تنظيما مندمجا متماسكا يتطلب
تحديد هدف واضح لنشاط ذلك المجتمع"(ص:115). وهذا هو الغائب في هذه المرحلة ــ
حسب سان سيمون دائما ــ؛ ومن هنا يطالب بتحديد هدف واضح للمجتمع تلتف حوله كل
الفئات الاجتماعية، وعلى أساسه تنتقل السلطة من الفلاسفة ورجال القانون الذين
نصبوا إبان الثورة وفي تلك المرحلة الانتقالية على رأس السلطة، إلى القوى
الاجتماعية والسياسية الجديدة، قوى الصناعة والعلم، وهؤلاء الورثة الجدد عليهم أن
يقوموا بتلبية حاجيات الفقراء والفئات المسحوقة، وألا يكرروا أخطاء من سبقوهم.
وعلى هذا الأساس من اللازم على الفئة المنتجة العصرية التحالف مع منظرين جدد هم
المثقفون الوضعيون من فيزيائيين وكيميائيين وفيزيولوجيين ورياضيين (ص:118)، لأنهم
وحدهم القادرون على إيجاد الحلول العلمية المناسبة لكل المشاكل، سواء العلمية
(وهذا ما تمكنوا منه بالفعل) أو الاجتماعية (وهذا ما يظن سان سيمون أنهم قادرون
عليه).
وإذا ما أردنا أن نعرض خلاصة مركزة لنظرية سان سيمون حول
المثقفين، فإننا سنحصل حسب ذ. حيمر على ما يلي: المجتمع لابد أن يكون له هدف، ومن
هنا كان هدف المجتمع المؤسس على النظام الاقطاعي هو الغزو، من أجل توفير الأمن
الداخلي والخارجي، والمصدر الأساسي للثروة في نظر أفراد المجتمع، وهذا المجتمع
مؤسس على العمل اليدوي والفكري، لكن مثقفيه يتكونون من رجال الدين والقانون
والأدباء، والفلاسفة الميتافيزيقيين الذين يتميزون بالاعتقاد والسفسطة والبلاغة
اللفظية. ومن هذا المنطلق وبعد الثورة يجب على جميع فئات المجتمع الالتفاف حول هدف
وغاية جديدين وهما تأسيس النظام الصناعي المرتكز على العمل المنتج، عمل يدوي وفكري
كذلك، لكن فاعليه هم اقتصاديون ومفكرون مبدعون، ومثقفوه وضعيون يعتمدون البرهنة
العلمية المبنية على الملاحظة، ومن هنا المطالبة باستكمال العلوم الوضعية بتأسيس
العلوم الاجتماعية والسياسية، كخطوة تأسيسية للنظام الصناعي الحديث، هكذا نصل مع
سان سيمون إلى نهاية التاريخ!!(ص:122).
رابعا: التقليد الغرامشي
هكذا يبدوا لنا دوما ونحن ننتقل من تحديد نظري للمثقف
والمثقفين إلى تحديد نظري آخر، أن موقع المثقفين يوجد في مركز الوجود الاجتماعي
للبشر، حيث تتمفصل السلطة والمعرفة، الدولة والمجتمع، الفكر والواقع، الأيديولوجيا
والطوبى، المعرفة الدينية والمعرفة الزمنية، العلوم الحقة والعلوم الاجتماعية
والانسانية، البنيات التحتية والبنيات الفوقية، التاريخ ونهايته المزعومة، والانسان
بوصفه نتاجا للتاريخ وفاعلا فيه في الآن نفسه.
المثقف وظيفة ثقافية، علاقة اجتماعية، جماعة اجتماعية
عضوية ترتبط في ظهورها واختفائها من مسرح التاريخ البشري بظهور واختفاء فئات
اجتماعية ذات مواقع أساسية في بنية الانتاج المادي المحدد تاريخيا. هذا ما سينادي
به أنطونيو غرامشي من وراء قضبان نظام فاشي استبدادي، ساد في إيطاليا بين الحربين
العالميتين (ص:124).
وبطبيعة الحال فإن غرامشي لم يتوصل إلى هذه الخلاصات إلا
من خلال مراجعته للماركسية، ومن خلال تأثره بالمحلي (ما كان يجري في إيطاليا من
أحداث سياسية واقتصادية، متأرجحة بين جنوب فلاحي متأخر، وشمال رأسمالي متقدم)،
وبالعالمي والكوني. وفي مقال تحت عنوان الثورة على رأس المال، يقوم غرامشي بتحليل
عميق للتطورات التي تعرفها روسيا القيصرية، وكيف نجحت الاشتراكية في روسيا ولم
تنجح في غيرها؛ حيث أن التحليل الماركسي المستند على المادية التاريخية ينطلق من
الواقع الانجليزي الذي جعلت فيه الثورة الصناعية من البرجوازية طبقة سائدة وعلى
عاتقها قيادة المجتمع، لكن هذه الطبقة تنكرت للمهام التاريخية المنوطة بها وعوض أن
تحرر الانسانية استسلمت إلى مصالحها الطبقية الضيقة، وهنا ظهر التناقض بين الطبقة
العاملة التي تبيع قوة عملها، وهي المنتجة للخيرات، وبين مالكي وسائل الانتاج،
بمعنى أننا أمام إنتاج جماعي للخيرات وامتلاك فردي لوسائل الانتاج وفائض القيمة.
هذه التناقضات هي التي جعلت ماركس يتنبأ بالصراع الطبقي وبالثورة البروليتارية،
ومن هنا جعل من الطبقة العاملة الطبقة التي ستخلص المجتمع من الاستعباد بقضائها
على الملكية الفردية لوسائل الانتاج.
لكن هذا الاطار المرجعي الذي انطلق منه ماركس والمتمثل
في المجتمع الانجليزي البورجوازي الذي وصل إلى أعلى مراتب التقدم الرأسمالي
الصناعي يختلف عن المجتمع الروسي، وقيادة المجتمع لم تصبح في يد البورجوازية
الصاعدة بل في يد الطبقة العاملة، فكيف حدث الوعي الذي يحتاج إلى سيرورة طويلة
ومعقدة من الأحداث؟
هذا ما لم يستطع وما لم يكن في استطاعة ماركس التنبؤ به،
إنها الحرب العالمية الأولى التي سهلت على المجتمع الروسي الالتفاف على بعضه
واكتساب وعي ثوري، ومن هنا أنيطت بالطبقة البروليتارية الروسية مهمة الاقلاع
بالمجتمع إلى مصاف الدول الكبرى، مستفيدة من تجارب البورجوازية والبروليتاريا معا.
إننا نتحدث عن تجاوز للحظات التاريخية، تجاوز عن طريق
الفكر ودون الوقوع في نفس الأخطاء، ومن هنا فقد أدرك البلاشفة الروس بأن منطق
التاريخ ليس حتميا، وقوانين التاريخ الماركسية ليست قوانين حتمية مثل قوانين
الطبيعة.
من هذا المنظور يعود غرامشي بالماركسية والتفكير
الماركسي إلى جذوره وروحه، بمعنى أنه يحاول أن يخلصه من القشور الوضعية التي
التصقت به، يرجعه إلى الانسان صانع الأحداث، الانسان بوصفه ذات وإرادة، قادر على
التغيير وعلى خلق الأحداث. صحيح أن الظروف والاقتصاد والمجتمع تخلق الانسان لكن
هذا الأخير له القدرة على الفعل وهو ليس نتيجة حتمية للظروف والمجتمع. ومن هنا فإن
غرامشي "لا يجد فضاضة في مدح الاتجاهات المثالية التي تؤكد فاعلية الذات،
وتأثير الارادة والوعي والقصد وإبراز أهمية المعنى والثقافة في تشكيل المجتمع
وتوجيه سيرورة تاريخه" (ص:137).
إن غرامشي يضعنا أمام تصور عضوي وظيفي جدلي للكون
الاجتماعي، بموجبه يكون المجتمع وحدة عضوية حية موحدة، تتركب من شكل هو الثقافة
وتصور العالم والأيديولوجيا والأشكال الرمزية كلها من جهة، ومن محتوى مادي هو
القوى المادية للمجتمع متمثلة في الطبقات الاجتماعية ومؤسسات الانتاج المادي
للمجتمع من جهة أخرى (ص:139).
وغرامشي مثله مثل بورديو (فيما بعد) يقول بأن الطبقات
الاجتماعية لا توجد إلا على الورق، وهي تحتاج لكي تصبح وجودا واقعيا حيا إلى
اكتساب وعيها لذاتها، لمصالحها وأهدافها، وإلى فعل تعبوي مستمر. وهذا الوعي لا
ينبع تلقائيا وعفويا من أوضاعها (أي الطبقة) الاجتماعية، والاقتصادية، بل يتم من
خلال كاتارزيس Katharsis
([1])
تتولاه حركة ثقافية سياسية يقودها المثقفون، ترتقي بوعي الطبقات والفئات
الاجتماعية من مستوى الوعي الحسي الحرفي الضيق والمشترك إلى مستو الوعي الطبقي
بالذات.
وفي معرض تحليله لمسار تشكل أصناف المثقفين، يرى غرامشي
بأن كل طبقة أو فئة اجتماعية تخلق مثقفيها العضويين الذين ينتمون إليها انتماء
الجزء إلى الكل، ويقومون بالدفاع عن مصالحها كما يساهمون إذا كانوا ينتمون إلى
الطبقة السائدة اقتصاديا وسياسيا في اكتمال بسط السيادة على المستوى الثقافي.
ويقول غرامشي بأن هؤلاء المثقفين العضويين هم اللذين يقومون بدور اللاحم لطبقتهم،
ولذلك يبدون كما لو كانوا مستقلين عن طبقتهم بواسطة خطاباتهم ومواقفهم، لكنهم في
الواقع لا يقومون سوى بالدفاع عن المصالح العامة لطبقتهم. وتتفرع الوظيفة الثقافية
التي يقوم بها المثقفون نيابة عن الطبقات الاجتماعية التي يرتبطون بها عضويا إلى
أربع وظائف، بحسب مجالات ممارستها:
1-
في
المجال الاقتصادي، حيث يقوم المثقفون العضويون بتنظيم الوظيفة الاقتصادية لطبقتهم،
فيبحثون في مختبراتهم عن حلول تقنية وعلمية لمشاكل الانتاج والتوزيع...(ص:145).
2- في المجال السياسي، ويقومون
بتنظيم وظيفة السيطرة لفائدة الطبقة السائدة التي يكون عليها أن تمارس في المجتمع
السياسي قصد إخضاع كل مكونات المجتمع، وإدارة مختلف هياكله في انسجام مع ما تمليه
مصالحها في الآن والمآل...(ص:147).
3- أما في المجال الاجتماعي، فإن المثقفين يتولون
نيابة عن الطبقة التي يرتبطون بها عضويا تنظيم وظيفة الهيمنة التي يكون على تلك
الطبقة أن تمارسها في المجتمع المدني قصد إقناع مكوناته بشرعية سيطرتها، وإحراز
رضاها الطوعي بالخضوع لها...(ص:148). وهنا يقوم غرامشي بالتمييز بين مثقفي
المثقفين، وبين الشراح الذين ينقلون أفكار المثقفين الكبار إلى العامة من الناس.
وبهذا يظهر التعارض المزعوم بين المثقف (المثالي) والسياسي (الواقعي) الذي ليس هو
في نهاية التحليل سوى إخفاء للوظيفة الثقافية للسياسة ولرجال السياسة، وتغييب
العلاقات التي توحد النظرية والتطبيق في النشاط السياسي (ص:152).
4- والحديث عن مثقفي المثقفين أو
المثقفين من الدرجة الثانية، أو المثقفين باختصار، يقودنا مباشرة إلى الحديث عن
الوظيفة الثقافية التي توكل الطبقة الاجتماعية تنظيمها إلى مثقفيها العضويين، وهي
وظيفة التجانس، وبلورة الأيديولوجيات أو تصورات العالم، قصد تحقيق التجانس والوعي
الذاتي النقدي للطبقات الاجتماعية...(ص:153).
ويستخدم غرامشي تصورا للعالم مرادفا للأيديولوجيا
والفلسفة والثقافة، فكل إنسان ــ بالتعريف ــ مثقف وفيلسوف، وحامل صيغ ذهنية
أيديولوجية، يعيش حياته ويختار أفعاله، ويوجه سلوكاته بدلالتها، وكل إنسان يمارس
خارج مهنته نشاطا ثقافيا ما فهو فيلسوف وفنان وإنسان ذوق، ويساهم في تصور للعالم
ويمتلك نهجا في السلوك الاجتماعي الواعي، أي يساهم في دعم أو تغيير تصور للعالم،
أي في ولادة أنماط تفكير جديدة (ص:153).
غير أن كل إنسان، كل فرد، إنسان/جمهور، أو إنه إنسان
جمعي بتعبير غرامشي يتحدد تصوره للعالم بانتمائه الاجتماعي إلى تجمع بشري يحتل
موقعا معينا في بنية الانتاج، ويتقاسم أعضاؤه كيفيات التفكير نفسها والاحساس
والفعل نفسيهما. وهكذا لا يكون تصور الفرد للعالم أو إن شئت فلسفته التلقائية، أو
ايديولوجيته العفوية أو ثقافته الشخصية، إلا ترجمة فردية ذاتية لتصور جمعي طبقي
للعالم (ص:154).
ومن هنا فإن تصور الانسان للعالم، فردا كان أم جماعة لا
يكون تصورا نقديا منسجما بل هو تصور يخضع للجماعة، والأفراد لأنهم تشربوه عبر
سيرورة التنشئة يعتبرونه نتاجا لهم ولأفكارهم، وهذه هي الأيديولوجيا لكنها تكتسب
مع غرامشي معنا إيجابيا مخالفا للمعنى السلبي الذي يأخذ به ماركس.
وأفراد المجتمع لا يتأثرون بمحيطهم وتاريخهم الحاضر فقط،
بل يتأثرون بتصورات المجتمعات السابقة للعالم وذلك لأن تلك الرؤى تبقى على شكل
ترسبات، ولذلك نجد في بعض الأحيان إن لم نقل في غالبها مجتمعات تسير وفق تصورات
أصلها في الماضي، وغير مطابقة للواقع. وهنا يأتي دور المثقفين بصنفيهما، أي
المثقفين الكبار الذين ينتجون الثقافة ويعملون على نقد ومراجعة ايديولوجية طبقتهم،
والمثقفين الشراح الذين يقومون بنشر تلك الثقافة بين الناس وهذه هي العملية الأهم
بالنسبة إلى غرامشي.
عندما يتعلق الأمر بالمثقفين المرتبطين عضويا بالطبقة
السائدة، فإن دورهم يكبر ويتسع، لأنهم يشكلون في هذه الحالة المثقفين السائدين
الذين يمارسون وظيفة السلطة، ووظيفة المعرفة؛ بيد أن ذلك لا يعني أن المثقفين
السائدين يملكون السلطة، بل يعني فقط أنهم يمارسون السلطة باسم الطبقة السائدة،
إنهم التعبير الاجتماعي الثقافي عن سلطتها (ص:159).
ولما كان هؤلاء المثقفون قادرون على تمثل المجتمع كله،
فإنهم يجهدون لبلورة تصور كلي للعالم منطلقين من منظور يزعمون أنه كوني في حين أنه
ليس كونيا إلا في نظر نظام اجتماعي معين خلال فترة تاريخية من سيرورته (ص:160).
وعندما يعجز المثقفون السائدون على فرض رؤيتهم وتصورهم للعالم على باقي الفئات
الأخرى فإن ذلك دليل على أن الطبقة الاجتماعية التي يرتبط بها هؤلاء المثقفون تعيش
أزمة، وأنها تسير في طريق الانهيار. وبما أن مثقفي الطبقة السائدة هم منحدرون
اجتماعيا من طبقات المجتمع كافة ولا يتحددون بملكية وسائل الانتاج، وبما أنهم
يتحدثون باسم الكوني، فإنهم لا يترددون في نقد طبقتهم ونظامها الاجتماعي، مما
يجعلهم يظهرون كما لو كانوا كونيين حقا يسبحون فوق المجتمع، متحررين من أي روابط
تربطهم بأي طبقة اجتماعية خاصة، على النحو الذي تصورهم عليه كارل ما نهايم.
لكن ماذا يحدث للمثقفين عندما يتغير المجتمع عميقا،
فينتقل من نظام اجتماعي إلى نظام آخر؟ أو يتغير التشكل الطبقي في المجتمع نفسه
بصعود جماعات ونزول جماعات أخرى، بل وانهيارها وتفككها؟ (ص:162).
بطرحنا لهذا السؤال يقول ذ. حيمر فإننا ننتقل بأفق
التحليل من البنية إلى التغيير، ومن السوسيولوجيا إلى التاريخ، ومن المثقفين
العضويين إلى المثقفين التقليديين.
- المثقفون التقليديون:
إن المثقفين التقليديين هم مثقفي الطبقة التي كانت سائدة
وانهارت، بمعنى إنهم المثقفون العضويون في النظام السابق، والنظام الاجتماعي
الحالي لم ينتجهم بل ورثهم، وهؤلاء المثقفين التقليديون يتمسكون بالمواقع والوظائف
التي كانوا يحتلونها في النظام البائد، وهذا ما يجعلهم يصطدمون بالمثقفين عضويين الجدد
، مثقفي الطبقة السائدة حاليا. وفي خضم هذا الصراع تحاول الطبقة الحاكمة احتواء
وتمثل المثقفين التقليديين، إما باستعمال قوة إكراه الدولة وإما باستعمال الاغراء
والامتيازات، وإما بقدرة مثقفيها العضويين على النقد والحجاج والبرهنة والاقناع،
وإما باستعمال هذه الوسائل مجتمعة، وهذا ما يسهل ويعزز السيطرة والهيمنة على
المجتمع، حيث تفرض الطبقة الحاكمة على المثقفين التقليديين إدخال تعديلات على
مواقفهم وتصوراتهم للعالم، وهناك العديد من التجارب التي تثبت هذا مثل:
-
تجربة
البورجوازية الفرنسية إثر الثورة الفرنسية في عهد اليعاقبة.
-
تجربة البورجوازية الانجليزية.
-
تجربة البورجوازية الألمانية.
-
تجربة البورجوازية الإيطالية في عهد الكومونات
خلال القرن الحادي عشر (ص:165).
ومن الملفت للنظر (يقول ذ. حيمر) أن المثقفين التقليديين
الذين واجهتهم البورجوازية في أوروبا خلال مرحلة بناء الحداثة الغربية، لم يكونوا
سوى رجال الدين الذين كانوا قد انتظموا في هيئة تراتبية قوية هي الكنيسة.
وإذا كان غرامشي قد توقف إلى حد كبير في إغناء التحليل
السوسيولوجي التاريخي بمفهوم المثقفين التقليديين، في وضع يكون فيه المجتمع يتحول
من نظام اجتماعي إلى نظام اجتماعي مغاير، فإن الدارسين يتفقون على أنه لم يكن
واضحا بما فيه الكفاية في أثناء توظيفه لهذا المفهوم، في وضع لا يتغير فيه النظام
الاجتماعي من حال إلى حال، بل تتغير في داخله فقط علاقات القوى بين الطبقات
الاجتماعية، بحيث تحتل طبقة أو فئة أو تحالف طبقي لم يكن في الصدارة محل طبقة أو
فئة أو تحالف طبقي كان في موقع السيادة والقيادة، فينجم عن هذا التحول فقدان شرائح
مثقفة عضوية لأساسها الطبقي العضوي، الأمر الذي يجعلها تتحول إلى شرائح مثقفة
تقليدية في المظهر الجديد الذي أصبح عليه الوضع الاجتماعي الناجم عن نسبة القوى الجديدة
بين الطبقات (ص:166).
لكن الجدير بالذكر هو أن غرامشي استخدم مفهوم المثقفين
التقليديين في سياق تفكيره ليس في نسقه النظري فقط، ولكن من خلال تفكيره في محيطه
المجتمعي الإيطالي خصوصا والاوروبي عموما. حيث وكما سبقت الإشارة، فإن إيطاليا
كانت تعيش وضعية شمال صناعي رأسمالي متقدم، وجنوب فلاحي متأخر، ومن هنا كانت رؤية
غرامشي بأن إيطاليا لن تحقق التقدم والتجانس إلا من خلال عملية لحم تضطلع بها
الثقافة عموما والمثقفون خصوصا، حيث يجب على مثقفي الطبقة البروليتارية الهيمنة
على مثقفي طبقة الفلاحين وإدخالها معها في نفس الرؤية، وذلك للاستيلاء على جهاز
الدولة.
ومن الجدير بالذكر أن نظرية غرامشي عن المثقفين هي في
الآن ذاته نظرية عن الدولة والتغيير الاجتماعي في الغرب، فما كان يهم غرامشي في
المقام الأول هو تحليل بنية السلطة في المجتمع الحديث، تحليلا ينير السبيل لقوى
التغيير في هذا المجتمع، قصد الانتقال به من شكله الرأسمالي إلى شكل اشتراكي جديد
(ص:169).
وبما أن غرامشي كما سبق وأشرنا ينطلق من التفكير العميق
في طبيعة الانسان بوصفه المعطى الأول للتاريخ البشري، وبوصف طبيعة هذا الانسان
تجمع بين الوحش الضاري والانسان المتحضر، فإن الفعل السياسي سيكون نسيجا مكونا من
القوة والرضى، والسيطرة والهيمنة، والعنف والحضارة.
هكذا ندخل مع غرامشي إلى مكونات المجتمع وطبيعة ممارسة
السلطة داخل المجتمع، ومن الذي يمارسها. وهنا يقوم بمقارنة بين الشرق والغرب
الأوروبيين، من خلال الدولة والمجتمع المدني، فيقول بأن السيطرة على المجتمع في
الشرق، هي عن طريق القوة والعنف (رغم كون هذه القوة مبررة لأهداف عامة)، على عكس
كون السيطرة في الغرب تتم عن طريق هيمنة الدولة على مؤسسات المجتمع المدني أي على
المؤسسات الأيديولوجية. وهنا يقول غرامشي بأنه في الغرب لا تعتمد البورجوازية في
إعادة إنتاج سيادتها في الفضاء الاجتماعي على القوة والضغط والإكراه أو التدخل
البوليسي الشرعي للدولة، أي على السيطرة على المجتمع السياسي فقط، بل إنها تعتمد
أيضا في ذلك على إحرازها لرضى المحكومين واعترافهم بشرعية قيادتها من خلال الهيمنة
على المجتمع المدني (ص:173). ومن هنا تكون الدولة في المجتمع البورجوازي الحديث
ليست سوى خندق متقدم توحد وراءه سلسلة من التحصينات الثقافية والأيديولوجية التي
تدعمها في حالة الأزمات لأن المجتمع والفرد تصبح لديهم رؤية بأن الدولة هي تعبير
عنهما.
من خلال ما سبق يتضح نوع من الفصل بين الدولة والمجتمع
المدني، حيث تمتلك الأولى شرعية ممارسة العنف، بينما يمارس المجتمع المدني الهيمنة
عن طريق الرضى. وهذا ما يتضح من خلال مقارنته بين الشرق والغرب الأوروبيين. لكن
عندما تخلص (غرامشي) من إسار سلطة المقابلة بين الشرق (روسيا الاتحاد السوفياتي)،
والغرب (البورجوازي الرأسمالي)، لتبيان خصوصية الدولة الحديثة في أوروبا الغربية،
وأصبح أفقه النظري يكمن في تشريح بنية سلطة الدولة الديمقراطية النيابية الحديثة
في الغرب وحده، آنئذ تبين غرامشي الطابع الأخلاقي والثقافي لعنف الدولة، مؤكدا أن
الهيمنة والعنف، الرضى والإكراه، إنما يوجدان معا في الدولة والمجتمع المدني
(ص:179). لكن غرامشي لم يقف عند حدود هذه الصيغة الثانية للعلاقة بين الدولة والمجتمع
المدني، وإنما تجاوزها إلى صيغة ثالثة تمثلت في اعتباره المجتمع المدني عنصرا من
عناصر الدولة، ومكونا أساسيا من مكوناتها، فالمجتمع المدني جزء من الدولة، بل إنه
الدولة نفسها.
ويرى بيري أندرسون بأن هذه الصيغة الثالثة للعلاقة بين
المجتمع المدني والدولة، قد صححت الصيغتين السابقتين، غير أن التقدم الذي حققته
(هذه الصيغة) على هذا الصعيد أضاعته عندما ألغت التمايز بين الدولة والمجتمع
المدني إلغاء تاما (ص:182).
وهذه الصيغة الثالثة هي التي استلهمها لوي ألتوسير،
عندما حاول أن يضع نظرية جديدة للدولة، تجمع بين تحليل بنية الدولة وتفسير وظائفها
الاكراهية والهيمنة في المجتمع، فيما قبل وما بعد قيام الحداثة الرأسمالية الغربية
المعاصرة، منطلقا في ذلك من مفهوم إعادة الانتاج، منتهيا إلى القول بأن الدولة
تتركب من العلاقة بين مكونين أساسيين هما:
-
سلطة الدولة التي تتصارع حولها الجماعات
الاجتماعية المختلفة...
-
وجهاز الدولة الذي تستخدمه الطبقة الحاكمة أو
التحالف الطبقي الحاكم، في حكم المجتمع وتسييره، بل وإعادة إنتاج علاقاته
الاجتماعية (ص:182).
ويميز غرامشي في أجهزة الدولة بين جهاز الدولة القمعي
الذي يتركب من مؤسسات عمومية للإكراه والعنف الشرعيين من جهة، وأجهزة الدولة الأيديولوجية
التي تتركب من مؤسسات متعددة للهيمنة الثقافية والأيديولوجية، ويغلب عليها الطابع
الخصوصي من جهة أخرى، رافضا مفهوم المجتمع المدني معتبرا إياه مفهوما لا علميا
فلسفيا هيغيليا، ومعوضا إياه بمفهوم أجهزة الدولة الأيديولوجية. هذا المفهوم
البديل الذي يقترحه غرامشي، هو أجهزة الدولة الأيديولوجية التي تتكون ــ كما
المجتمع المدني ــ من مؤسسات خصوصية كالأحزاب والنقابات والمدرسة والأسرة
والمؤسسات الثقافية المختلفة.
فكيف يمكن أن تكون مؤسسات الأجهزة الأيديولوجية مؤسسات
للدولة، على الرغم من كونها في الغالب العام مؤسسات خصوصية، لا تنتمي إلى ما هو
عمومي؟ ألا يعتبر ذلك تناقضا صارخا؟ (ص:183).
يجيب ألتوسير واضعا جوابه في سياق الاتجاه
"العلمي" الذي استنه ماركس الكهل، وحددت معالمه "حدوس غرامشي"
على نحو ما تبدو عليه في الصيغة النظرية الثالثة للعلاقة بين الدولة والمجتمع
المدني...بأن السيرورة التاريخية للمجتمعات برهنت على أنه يستحيل أن تحتفظ أي طبقة
بامتلاك سلطة الدولة من دون أن تمارس في الوقت نفسه هيمنتها على/وفي أجهزة الدولة
الأيديولوجية، إذ إن هذه الأجهزة ليست رهانا للصراع بين الطبقات فقط، بل إنها
المكان الذي تدور فيه أشد أشكال ذلك الصراع ضراوة وحدة... وها هنا تظهر أهمية
الثقافة والأيديولوجيا، والقائمين بوظائفهما في إعادة إنتاج أشكال المجتمع البشري
قديمه وحديثه. فما يميز المجتمع الغربي الحديث ــ في نظر ألتوسير ــ هو غلبة جهاز
المدرسة على ما عداه من أجهزة الدولة الأيديولوجية...(ص:184).
من هنا نخلص إلى كون أي جهاز دولة كيفما كان، أيديولوجيا
أو إكراهيا، لا يمارس وظائفه بشكل كامل إلا إذا جمع بين العنف والأيديولوجيا، بين
الهيمنة بالتراضي والاقناع، والقمع بالإكراه والعنف. وهذه هي الإضافة التي أضافها
ألتوسير إلى الصيغة الثالثة للعلاقة بين الدولة والمجتمع المدني التي توصل إليها
غرامشي.
وفي الأخير يقول بيري أندرسون بأن خصوصية الدولة
الحديثة، لا تكمن في كونها تتركب من الجمع بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني،
الذي لم يعد موجودا خارج كيان الدولة الحديثة، على نحو ما أكده غرامشي في صغته
الثالثة والأخيرة (إذ أن ذلك يقود إلى الخلط بين الدولة النيابية الديمقراطية،
والدولة الفاشية في المجتمع الحديث)، كما لا تكمن تلك الخصوصية في كون الدولة تتركب
من جهاز للإكراه من جهة، وأجهزة أيديولوجية للهيمنة من جهة أخرى... بل إنها (أي
خصوصية الدولة الحديثة) تكمن في شكلها النيابي القادر على إخفاء التفاوت الطبقي بين
الناس، بسبب تفاوتهم في مواقعهم داخل بنية الانتاج المادي، فيظهر الناس في إطار
هذا الشكل النيابي لتنظيم الدولة الحديثة كما لو كانوا متساوين في القدرة على
الانتفاع بسلطة الدولة، وفي التمكن من تحمل المسؤوليات كافة، بما فيه مسؤولية الحكومة،
على الرغم من تفاوتهم الطبقي في الانتفاع بثمرات الانتاج المادي، وما ينجم عنه من
تفاوت في النفوذ الاجتماعي (ص:188). وتكمن تلك القدرة الإيهامية لهذا الشكل
النيابي للدولة في قواعد ومبادئ خاصة كمبدأ المساواة أمام القانون في الحقوق
والواجبات، وفي حق الاقتراع العام. وهذا يجعل الناس ينسون التفاوت على المستويين
الاقتصادي والاجتماعي.
وإذا كان أندرسون يرى بأن هذا الشكل النيابي للدولة
الحديثة قد استنفذ كل مهامه التاريخية، ولم يعد سوى آلة لإنتاج الأوهام، ووصل إلى
أفقه المسدود والمظلم بالنسبة للدول المتقدمة، فإن هذا الشكل من التنظيم للدولة هو
أفق تفكير ونضال المجتمعات التقليدية، ويشكل مطلبا تاريخيا.
الفصل
الرابع: المثقف وعي والتزام فرديان
أولا: قضية دريفوس وولادة المثقف
تتجلى الخاصية الأساسية التي بها يتحدد المثقف ويتميز عن
محترفي الأنشطة الثقافية، في الوعي الحاد بواجب الالتزام بقول الحقيقة ونشرها بين
الناس، في كل قضية تهم المجتمع أفرادا وجماعات، والدفاع عن الحق والعدل والحرية...
من هنا فإن الالتزام بهذا المعنى هو ما ينقل محترف الأنشطة الثقافية من مثقف
بالقوة إلى مثقف بالفعل. ويعبر ذلك الالتزام عن ذاته في أنماط التدخلات الخاصة
بالمثقفين، كاتخاذ المواقف، وتوقيع البيانات والعرائض...(ص:197).
لكن هذا الالتزام يفترض شروطا، يجب توافر البعض منها في
المثقف والبعض الآخر في المجتمع. حيث ينبغي أن يكون المثقف شجاعا قادرا على النظر
بصرامة إلى قضايا مجتمعه، صرامة تحول دون تراجع النقد أمام النتائج التي يقود
إليها هو نفسه، ولا أمام الصراع مع السلطة أيا كانت. كما ينبغي أن يقف المجتمع من
مثقفه موقف التلميذ من أستاذه، وفق تصور ضمني، عقلاني واجتماعي للتاريخ، يقضي بأن
الأفكار تحكم العالم وتؤثر فيه وتحركه، على نحو يصير به ذلك التصور قناعة مشتركة بين
سواد الأمة (ص:198). إضافة إلى ذلك يجب أن تتمتع حقول الانتاج الثقافي باستقلال عن
الحقول الأخرى (كالحقل السياسي، والديني، والاقتصادي...) الأمر الذي يكسب المثقفين
داخل مجتمعاتهم سلطة ثقافية حقيقية بإمكانها التأثير والتغيير إلى هذا الحد أو
ذاك. غير أنه تجدر الاشارة (يقول ذ. حيمر) إلى أن سلطة المثقف وثقة الرأي العام
فيه، لا يمكن أن توجد إلا في مناخ الدولة الديمقراطية والمناخ الحداثي، حيث الرأي
العام له فاعليته، والشعب هو مصدر السلطات العمومية، حيث أن السياق التاريخي لقضية
دريفوس قد جعل مفهوم المثقف مرتبطا بمفاهيم تحيل إلى النقاش والقيم والـ
"مع" والـ "ضد".
تلك القضية التي أدين فيها Alfred Drefus وهو قبطان
في الجيش الفرنسي بتهمة التجسس لصالح ألمانيا (عدوة فرنسا آنئذ) وجرد من رتبته
العسكرية، ونفي مدى الحياة إلى جزيرة الشيطان في كويانا. لكن هذه القضية أصبحت
قضية اجتماعية وسياسية تشغل الرأي العام عندما باح الكولونيل جورج بيكورات باسم
الجاسوس الحقيقي وهو استرازي. هنا اتخذت القضية بعدا آخر حيث قام إيميل زولا ببعث
رسالة إلى الرئيس الفرنسي من خلال نشرها في جريدة L’Aurore تحت عنوان J’accuse "إني
أتهم".
من هذا المنطلق أصبح المثقف هو ذلك الذي يغادر موقعه
وتخصصه المعرفي من أجل الانخراط فيما يهم الرأي العام، وما يساهم في إظهار
الحقيقة، من منطلق أن المثقف هو من يستثمر معارفه لإفادة مجتمعه والانسانية جمعاء.
يقول زولا: ولأنهم تجرؤوا فإنني سأتجرأ أيضا. الحقيقة سأقولها، لأنني وعدت بقولها
إذا تخلى القضاء على الرغم من معرفته بها عن قولها كاملة غير منقوصة، فواجبي يكمن
في أن أتكلم (ص:204). لقد تم التستر على الجاسوس الحقيقي بدافع عدم تكسير صورة
المؤسسة العسكرية أمام الشعب وباقي الدول، وهذا ما لم يقبله زولا. فكيف نعاقب
إنسانا على جريمة لم يفعلها لدوافع كيفما كانت.
وفي هذا الصدد انقسم الرأي العام الفرنسي إلى مناصرين لقضية
دريفوس، وإلى من هم ضدها. وأطلق المناصرون الموقعون على العريضة التي تقضي بإعادة
المحاكمة على أنفسهم اسم المثقفين، بمعنى ايجابي، بينما استعملها المعارضون بمعنى
قدحي. وهذا يذكرنا بمفاهيم الأيديولوجيا والأنتلجينسيا، فإذا كان المناصرون
لدريفوس يتحدثون في خطاباتهم عن الكوني والانساني، فإن المعادين له يتحدثون عن
الخصوصي والوطني، وهنا أصبحنا أمام مدلولين متعارضين لمفهوم واحد هو مفهوم المثقف.
لكن وبعد أن استعر الصراع الأيديولوجي بين اليساريين
الدريفوسيين وبين اليمينيين المحافظين، وعندما اضطر وزير الدفاع إلى أن يتحدث من
خلال البرلمان إلى الرأي العام، عن الموقف الرسمي من قضية دريفوس... انتبه
المحافظون إلى أنه من الخطأ ترك خصومهم يحتكرون اسم المثقفين الدال ــ رغم تحقيرهم
له ــ على النباهة والعلم والذكاء والمعرفة، فسارعوا إلى تسمية أنفسهم به.
وهكذا أخد الاسم يدل على نمط المثقف النقدي اليساري ذي
النزعة الكونية الانسانية، بالقدر الذي يدل على نمط المثقف المحافظ الامتثالي
اليميني، ذي النزعة الخصوصية الوطنية، وأصبح النزاع بين النمطين يدور حول من
يستأثر بسلطة الاسم دون غيره (ص:214).
لكن (يقول ذ. حيمر) إذا ما نظرنا من زاوية
سوسيوجينيالوجية إلى هذه المواجهة بين المثقفين اليساريين والمثقفين اليمينيين...
فإننا سنجد وراء كلا الخطابين... مصالح ورهانات اجتماعية عميقة، تتعلق بالتحولات
التي طرأت في نمط الانتقاء الاجتماعي لشرائح النخبة السائدة آنئذ (ص:215). غير أن
أحداث التاريخ دائما ما تضعنا أمام الواقع فالمثقفون اليساريون الدريفوسيون
المتحدثون باسم الكوني وجدوا أنفسهم منحازين إلى الحزب الشيوعي إبان الظرفية
التاريخية لانتصار ثورة أكتوبر 1917، وملتزمين بالدفاع عن قيم خاصة بدولة ووطن هما
الدولة السوفياتية والوطن السوفياتي. اعتقادا منهم أن الكوني يتجسد في تلك المرحلة
التاريخية في ذلك الحزب، وفي ذلك الوطن، وفي تلك الدولة، وأن البشرية دخلت مع ثورة
أكتوبر عهد انتصار الاشتراكية، وبداية بناء مملكة الكوني على الأرض (ص:218).
ومن هنا أصبحنا أمام "نهاية المثقف" الذي
انتصب سابقا للدفاع عن الكوني. ونجد هذه الأطروحة لدى رايمون آرون في كتابه
"أفيون المثقفين" الذي خصصه لدراسة ما سماه بالأساطير الحديثة التي
يشتغل بها بعض المثقفين الذين أعمتهم الأيديولوجيا الماركسية عن رؤية الواقع.
لكن لماذا ينحاز المثقفون إلى مصالح خصوصية باسم الدفاع
عن القيم الكونية الانسانية؟
يجيب رايمون آرون: لأنهم أولا يقعون فريسة لتناقضات
السياسة وعبوديتها، وثانيا لأنهم استبدلوا الكاثوليكية المبشرة ككل الأديان ــ من
خلال رؤية قيامية ــ بالخلاص في الآخرة على يد المسيح، بدين دنيوي هو المذهب
الشيوعي المبشر بخلاص البشرية من عذاباتها في هذه الدنيا، وذلك من خلال رؤية
قيامية، تتمثل في القطيعة مع الحاضر والماضي تحدثها الطبقة البروليتارية بثورتها
التي لا تتخلص بها من الاستغلال والظلم وحدها، بل تتخلص بها الانسانية كلها، إن
الرؤية القيامية الماركسية ــ يقول ريمون آرون ــ تنسب إلى البروليتارية دور منقد
(مخلص) جماعي، ولا تترك العبارات التي يستخدمها ماركس أي شك فيما يتعلق بالأصل
اليهودي ــ المسيحي لأسطورة الطبقة المختارة بسبب عذابها لخلاص البشرية كلها. ففي
رسالة البروليتاريا ونهاية ما قبل التاريخ بفضل الثورة وقيام مملكة الحرية نتعرف
من دون عناء إلى بنية الفكر الألوهي (المهدوي): المسيح، القطيعة، مملكة الله
(220).
هكذا
أصبح المثقف في قفص الاتهام مرة أخرى وأصبح مضطرا للدفاع عن نفسه، وتفنيد اتهامات
خصومه، وتأكيد مشروعية وجوده ووظيفته في العالم المعاصر. وهذا ما قام به سارتر
زميل آرون في المدرسة العليا للأساتذة، وخصمه اللدود، عندما نشر كتابه الشهير
مرافعة عن المثقفين، في التاريخ نفسه تقريبا الذي نشر فيه آرون كتابه أفيون
المثقفين (ص:222).
يتبع...
[1] - الكاتارزيس: يعني العملية الفكرية التي
بمقتضاها يعيد المثقفون العضويون بناء الوعي العفوي لطبقتهم أو كتلتهم الاجتماعية،
فيتطهر بها ذلك الوعي من شوائب حسيته وحرفيته وفئويته ومحليته وضيق أفقه، كما يصبح
وعيا طبقيا كونيا واستراتيجيا قادرا على تحويل الواقع وتغييره (ص:140).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق