ثانيا: المثقف الكلي (سارتر)
في مرافعة دفاع عن المثقفين... يعدد سارتر مختلف التهم
الموجهة إلى المثقفين، مفندا إياها، قبل أن يعرف المثقف:
يعرفه أولا بوجوده،
وثانيا بوظيفته في المجتمع المعاصر، مستندا إلى أساسين نظريين طالما حرص على تبيان
انسجامهما، هما: الرؤية الفلسفية الوجودية، والتحليل الماركسي في أحدث طبعاته
آنئذ، وأبعدها عن النزعة الوثوقية، أي في صيغته الغرامشية (ص:222).
تلتقي التهم كلها عند نتيجة مفادها أن المثقف يتدخل فيما
لا يعنيه، ويخرج عن دائرة اختصاصه وكفاءته ليقوم بوظيفة ليس مؤهلا للقيام بها
بالضرورة، غير أنه وإذا ما أمعنا النظر في هذه التهمة فإننا نجد أن المثقف حالة
استثنائية، خاصة، من مجموع الأفراد الذين يتحدد وجودهم بوظائف معترف بها اجتماعيا،
أي بأفعال وسلوك وبممارسة عملية، فكل إنسان يتحدد وجوده ويتحقق على هذه الصورة أو
تلك بما يفعله، أي بممارسته العملية (ص:223).
ومن أجل إبراز الكيفية التي انبثق بها المثقفون على مسرح
التاريخ، وقف سارتر على المسار التاريخي الذي قاد في حالة بعينها هي حالة فرنسا،
إلى تشكيل نخبة تقنيي المعرفة العملية، لكي ينتقل منها إلى تبيان الشروط التي ما
أن تتوافر في أفراد تلك النخبة من تقنيي المعرفة في المجتمعات الحديثة حتى يتحولوا
إلى مثقفين. وهذا المسار مر بمرحلتين كبيرتين:
الأولى: وهي مرحلة تكون وتطور تقنيي المعرفة العملية
في ارتباط وظيفي مع تكون الطبقة البورجوازية الحديثة، وتطورها في المجتمع الفرنسي
والأوروبي بشكل عام، حيث حل تقنيو المعرفة العملية تدريجيا محل رجال الدين
الكنيسيين الذين سادوا طوال القرون الوسطى ــ وإلى غاية القرن الرابع عشرــ سيادة
مطلقة، حيث كلما احتاجت البورجوازية ــ منذ أن كانت تجارية إلى أن أصبحت صناعية
وماليةــ إلى معارف وخبرات تقنية لحل مشاكل تعترضها في ممارساتها على المستويات
الاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية والقانونية والصحية كافة، استدعى ذلك
أن تجد البورجوازية مساعديها وخبرائها التقنيين، الذين يتولون إيجاد حلول ناجعة
للمشاكل التي تطرحها ممارستها الاقتصادية (ص:226).
غير أن سارتر لا يتحدث عن الوظيفة الأيديولوجية لتقنيي
المعرفة العملية بوصفها وظيفة ملازمة للبرجوازية الصاعدة منذ البداية الأولى
لظهورها، لأنه يرى بأن تلك البرجوازية عندما كانت تاجرة لم تكن بعد في حاجة لبلورة
أيديولوجيتها الخاصة، فاتخذت من أيديولوجية رجال الدين أيديولوجيا لها، لكن ما إن
بلغت البرجوازية في تطورها حدا تحولت معه الأيديولوجيا الدينية إلى عرقلة، حتى
أخدت البرجوازية ابتداء من نهاية القرن 17 تستشعر الحاجة الماسة إلى تأكيد ذاتها
كطبقة انطلاقا من تصور شامل للعالم، أي من أيديولوجيا (ص:227). وفي هذه الأثناء
أصبح اختصاصيو المعرفة العملية هم أيديولوجيو الطبقة البرجوازية الذين تولوا
تزويدها بأيديولوجيا زمنية ملاءمة لمصالحها الاقتصادية والسياسية، فحلوا محل رجال
الدين، وسموا أنفسهم بالفلاسفة أي محبي الحكمة وأنوار العقل... وهذا يعني أن
الفلاسفة يمثلون ما يسميه غرامشي بالمثقفين العضويين للطبقة البورجوازية الصاعدة،
فانحدروا منها وعبروا في خطابهم الفلسفي والأدبي والفني والعلمي عن فكرها الموضوعي
(ص:228).
ولما كان المثقفون ينحدرون من تقنيي المعرفة العملية،
فإن البحث في السمات الأساسية التي تميز هؤلاء الاختصاصيين عن غيرهم ستساعدنا على
التعرف إلى المثقفين وتعريفهم، وأولى السمات هي أن هؤلاء الفلاسفة والاختصاصيين
يتم اختيارهم من أعلى أي بقرار تتخذه الطبقة السائدة بحسب حاجيات شركاتها
ومقاولاتها ووفق الأرباح التي تتوخى قطفها من ورائهم، أما ثانية تلك السمات فتتمثل
في نمط التكوين الثقافي الذي يتلقاه اختصاصيو المعرفة العملية، خلال أطوار تعليمهم
المدرسي والجامعي بحيث يتلقون تعليما أيديولوجيا يدمجهم في النظام الاجتماعي
البرجوازي، من طفولتهم وحتى نهاية التعليم الثانوي، أما خلال المرحلة الجامعية،
فيتلقون قدرا من المعارف النقدية والمناهج التحليلية التي تمكنهم من ممارسة
وظائفهم التقنية في الإدارة والهيمنة الاجتماعية والحكومة السياسية، بوصفهم موظفي
البنية الفوقية بتعبير غرامشي. ومن هنا التناقض في تكوينهم الشخصي حيث هم خدام قيم
برجوازية وعليهم تقديمها لأنفسهم وغيرهم في مظهر قوانين علمية كونية.
ومن هذا المنطلق فإن تقنيي المعرفة لا ينتمون إلى الطبقة
العاملة (لأن التعليم العالي غالبا ما يغلق في وجوههم، فهم ينحدرون من البرجوازية،
وقد ينحدرون من الطبقات الوسطى القروية والحضرية معا) التي يشاركون الطبقة السائدة
في استغلالها، ولا ينتمون في الآن نفسه إلى الطبقة السائدة لأنهم خدام لها. ولعل
هذا التناقض الذي يحدد وجود تقني المعرفة وأدواره بين مختلف طبقات المجتمع الحديث
هو ما يحكم عليه بالتمزق والألم والقلق والوعي الشقي...(ص:230).
أما المرحلة
الثانية: التي عرفها المسار التاريخي لتكون المثقفين من رحم تقنيي المعرفة العملية
بعد أن أصبحوا فلاسفة، فهي المرحلة التي نجحت خلالها البرجوازية في تحقيق ما حلمت
به على أرض الواقع، عندما بنت على أنقاض المجتمع الإقطاعي الكنسي، مجتمعا رأسماليا
يقوم على أساس العلم والتقنية، ويرتبط فيه البرجوازيون الرأسماليون بعلاقات وظيفية
بتقنيي المعرفة العملية، من مهندسين وعلماء إحصاء واقتصاد، وأطباء ورجال قانون
وأساتذة، وفنانين ورجال سياسة وإدارة...إلخ (ص:230).
وفي هذه المرحلة ظهر الطابع الكوني المزيف للقيم التي
نادت بها البرجوازية واتضح أنها قيم خاصة بالبرجوازية، قيم طبقية ضيقة تقدم مصالح
البرجوازية في السيادة والاستحواذ على فائض القيمة، ومراكمة الأرباح من خلال
استغلال الطبقات الأخرى، بل الأمم والشعوب المستضعفة الأخرى. ولا يمثل هذا التناقض
المتمثل في المظهر الكوني للقيم البرجوازية، والحقيقة الطبقية لهذه القيم
(باعتباره تناقضا خارجي) التناقض الأساسي الوحيد للمجتمع البرجوازي الحديث، بل
ينضاف إليه تناقض داخلي للشخصية الأساسية للإنسان الذي تربى وتكون في إطار هذا المجتمع،
وفي إطار مؤسساته وعلى رأسها المؤسسة المدرسية.
من هنا أصبح التناقض الخارجي للمجتمع البرجوازي الحديث
بفضل مؤسسات التنشئة الاجتماعية، تناقضا باطنيا داخليا يعيشه الانسان المضطهد في
النظام الرأسمالي، في جلده، في شخصيته على نحو مأساوي... ومع ذلك يعيش الفرد في المجتمع
البرجوازي هذا التناقض كما لو كان تناقضا شخصيا نابعا من طبيعته ذاتها. لكن تقنيي
المعرفة العملية مؤهلون لوعي أسس هذا التناقض (بوصفهم أفرادا وليس بوصفهم جماعة)
وذلك نتيجة خبراتهم ومعارفهم النقدية، وما إن يحصل لهم الوعي حتى يتحولون إلى
مثقفين يتميزون عن تقنيي المعرفة العملية بسمة واحدة وهي أن وجودهم في الفضاء
الاجتماعي غير خاضع لأي قرار خارجي، بل هو خاضع لوعيه الشقي الداخلي، الذي هو وعي
بالتناقض الموضوعي للمجتمع البرجوازي المعاصر برمته، وقد استبطنه بفعل التنشئة
الاجتماعية.
من خلال ما سبق فإن تقني المعرفة العملية يكون أمام
حالتين أو اختيارين، الأول هو أن يخضع إلى الأيديولوجيا البرجوازية ويتحول إلى لا
أدري على مستوى التقييم المعرفي، ولا سياسي على مستوى الفعل، وهنا لا يمكننا
الحديث عن المثقف. والاختيار الثاني هو في أن يعلن معارضته للأيديولوجيا البرجوازية
الطبقية الخاصة، والكامنة تحت ستار القيم الكونية، وذلك بفضحها والاحتجاج ضدها،
وهنا نكون أمام ولادة المثقف من رحم تقني المعرفة العملية.
من هذا المنطلق يقول سارتر:" ولأن المثقف نتاج
مجتمعات ممزقة فإنه شاهد عليها لأنه استبطن تمزقاتها، إنه إذا منتوج تاريخي. وبهذا
المعنى لا يستطيع أي مجتمع أن يتشكى من مثقفيه من دون أن يضع نفسه موضع اتهام
وإدانة، لأنه لا يملك إلا ما فعل"(ص:234).
هكذا فإن المثقف ورغم كونه منتوجا تاريخيا للمجتمع
الحديث، فإن الطبقات الاجتماعية لا تعترف بوجوده، فالطبقة السائدة تتجاهله ولا ترى
فيه سوى تقني المعرفة العملية، والطبقة العاملة والفئات الشعبية تحذر منه لأنها لا
تستطيع أن تلده من صلبها، فيصبح المثقف يعيش حالة الغياب داخل الحضور. فقد تستعمل
آراءه وأفكاره من طرف الجماهير، لكنها تستعمل كأفكار في حد ذاتها ودون الرجوع
إليه. وكأن سارتر يريد أن يكمل ما قام به ماركس في تحليله لوضعية العامل وما
يعانيه من استيلاب واغتراب وتشيؤ، بإنتاجه نظرية عن استيلاب واغتراب المثقف داخل
المجال الثقافي.
لكن المثقف وبحكم وضعه ووعيه الشقي، لا يملك إلا أن
ينحاز إلى الطبقة العاملة ويعمل على أن يحمل إليها وعيه، لأنه بعمله ذاك لا يساهم
في تحرير الطبقة العاملة فقط، بل يعمل على انعتاق وتحرير ذاته، وإحلال القيم
الكونية محل القيم الطبقية الضيقة. ومن هنا دافع سارتر على المثقف الكوني الكلي
الذي يضع معارفه في سبيل تحرير الانسانية جمعاء.
ونظرية سارتر عن المثقف الكوني تفترض تصورا قانونيا
للسلطة، يقضي بكونها متحيزة في المكان، يمتلكها بعض الناس، ويحرم منها آخرون، فهي
توجد في ملكية من يملك وسائل الانتاج، تحتكرها الطبقة السائدة ولا يمكن للطبقة
المسودة أن تستعيد حريتها المسلوبة إلا بمعركة شاملة كلية، تنتزع السلطة من يد
الطبقة السائدة لتضعها في يد الانسانية جمعاء وفق المبادئ والقيم الكونية، قيم
العدالة والحقيقة والحرية والمساواة (ص:240). ومن هنا حسب سارتر يؤدي المثقفون في
هذه المعركة الكلية دورا أساسيا يتمثل في نقل وعيهم كما سبقت الإشارة إلى الطبقة
المسودة من المجتمع.
وكاعتراض ونقد لهذا التصور المتمثل في المثقف الكلي يأتي
ميشيل فوكو بتصور ميكروفيزيائي للسلطة، ومن هنا الحديث عن المثقف الخصوصي...
ثالثا: المثقف الخصوصي
يقول ذ. حيمر بأن هناك ثلاثة عوامل ساهمت في تبلور مفهوم
المثقف الخصوصي لدى ميشيل فوكو:
أولا: جاء هذا
المفهوم كمقابل (ضد) لمفهوم المثقف الكوني الذي نحته سارتر.
وثانيا: جاء مفهوم
المثقف الخصوصي في إطار نظرية فوكو عن المعرفة والسلطة.
وكعامل ثالث: نجد
الأثر الذي لعبته الحركات الاجتماعية الكبرى، التي عبرت عن نفسها في مختلف قطاعات
الحياة خلال نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي.
ويرى فوكو بأن زمن المثقف الكوني الذي يتحدث انطلاقا من
اعتبار نفسه ممثلا لهذا الكوني، مدافعا عنه ضد جبروت السلطة الحاكمة التي تحاول
طمسه باسم القيم الخصوصية للشعب أو الأمة، أو الطبقة أو العرف، أو مصلحة الدولة
(ص:245) قد ولى وانقضى، ليحل محله مثقف خصوصي لا يتحدث باسم الناس، وإنما يتحدث
انطلاقا من موقعه وتخصصه، ويقدم للناس ما يعرفه عن مشاكلهم الخاصة في نطاق تخصصه
المعرفي من معلومات ومعطيات، وللمتلقين الحرية في الاستفادة مما يقوله هذا المثقف
الخصوصي فيما يرونه مناسبا لمعالجة قضاياهم، سواء في الشغل أم السكن أم الصحة، أم
التعليم...إلخ.
من هنا أصبحنا نتحدث عن علاقة جديدة بين الممارسة
والنظرية، تكون من خلالها النظرية انعكاسا للممارسة والتطبيق، فهؤلاء المثقفين
الخصوصيين ــ يقول فوكوــ قد وجدوا مشاكل خصوصية مرتبطة بظروفهم المهنية أو شروط
حياتهم، واكتسبوا منها وعيا بالصراعات، وعيا ملموسا أكثر من غيرهم، ورغم كون هذه
المشاكل نوعية، خصوصية، غير كونية ومختلفة في غالب الأحيان عن مشاكل البروليتاريا
والجماهير، إلا أنهما تلتقيان في كون الخصم واحد وهو الشركات المتعددة الجنسيات،
الجهاز القضائي والبوليسي، المضاربات العقارية...إلخ (ص:247).
المثقف الخصوصي لم يظهر حسب فوكو إلا عبر مسار طويل امتد
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ويمثل عالم الذرة الأمريكي روبرت أوبنهايمر
نقطة الانتقال من المثقف الكوني إلى الخصوصي، حيث قام هذا العالم بالحديث عن مخاطر
الذرة على الانسانية، وعلى الكوني انطلاقا من مجال تخصصه. ومن هنا تموقع أوبنهايمر
في منزلة بين منزلتي المثقف الكوني والمثقف الخصوصي، لتكون هذه هي الحالة الأولى
التي تابع فيها رجل السياسة رجل العلم متابعة قضائية، لا بسبب خطاب عام كوني ألقاه
على الناس، بل بسبب خطاب علمي دقيق يعبر عن معرفة متخصصة.
انطلاقا مما سبق فإن فوكو يحاول أن يبني المثقف الخصوصي
بناء نظريا، محددا وظائفه وأدواره في المجتمعات الحداثية على أساس علاقة أخرى تربط
هذه المرة بين زوجي الحقيقة والسلطة، أو المعرفة والسلطة، بعد أن بناه سابقا على أساس
موقفه من العلاقة بين النظرية والممارسة (ص:250)، حيث أن للمثقف الخصوصي سلطة
يستمدها من المعرفة التي تخصص فيها، ويعترف له بها الجميع، دولة ومجتمعا، بل إن
المعرفة هي في حد ذاتها سلطة يتعين على صاحبها ألا يفرط فيها.
وبهذا يرى فوكو بأن المثقف الخصوصي عليه ألا يعتبر
السلطة توجد هناك بعيدا عن تخصصه المعرفي، هناك في جهاز الدولة وفي المؤسسات
الحزبية والادارية، وفي يد الطبقة السائدة، وأن معرفته لا تهمه إلا هو وزملائه، بل
عليه أن ينتبه إلى أن السلطة علاقات تربط فيما بين البشر، وليست شيئا يمكن للبعض
أن يمتلكه، ولا يمكن للآخرين أن يمتلكوه.
بهذا المعنى العلائقي توجد السلطة في جزئيات وتفاصيل
حياة الناس، ولا يخلو من وجودها أي مكان ولا أي قطاع، ولا أي نشاط في الفضاء
الاجتماعي، فهي ذات وجود محلي، ميكروفيزيائي (ص:251). وفي هذا وذاك تكمن فرادة
المثقف الخصوصي، مثقف المجتمعات العصرية التي أصبح فيها العلم والتقنية رأسمالا
حاسما وسلطانا قاهرا، ورهانا سياسيا يتحدد بنمط تدبير المصالح والارادات المتضاربة
فيه، لا مصائر تلك المجتمعات وحدها بل مصير البشرية جمعاء (ص:253).
رابعا: المثقف الجماعي
بقول ذ. حيمر بأن بورديو قد انتقل من كونه بنيويا صوريا
على طريقة شتراوس (في المنزل القبايلي على سبيل المثال) منحازا إلى فلسفة المعرفة
والموضوع ضد فلسفة المعنى والذات، إلى بناء رؤية سوسيولوجية للكون الاجتماعي،
قائمة على أساس الجمع المبدع بين الفلسفتين معا، في فلسفة جديدة، حرص بورديو على
وصفها بكونها فلسفة علائقية، تطبعية، عملية، لا تفصل بين الموضوع والذات، ولا بين
البنية والفاعل، ولا بين العلاقة والمعنى. وقد تم هذا الانتقال لبورديو باستخدام
ماكس فيبر وميرلوبونتي وماركس ــ أطروحات عن فيورباخ ــ وفيتغنشتاين... وعلى هذا
الأساس أصبح ممكنا لبورديو أن يتحدث عن اقتصاد الظواهر الرمزية، ودراسة المنطق
النوعي لإنتاج الخيرات الثقافية وتداولها (ص:254).
لقد ظل عالم المثقفين (حسب بورديو) يبدو كما لو كان
عالما استثنائيا، لا يخضع لما تخضع له العوالم الاجتماعية الأخرى من تناقضات
وصراعات حول المصالح والمنافع المختلفة، في حين أن القرائن كانت دوما تثبت أن هذا
العالم وإن كان عالما متخصصا في البحث عن الحقيقة، وفي المحافظة على القيم الكونية
لبني البشر، ينتمي هو الآخر إلى هذا العالم البشري الذي تحركه الرغبة والحاجة،
والمنفعة، ولا تمثل فيه إرادة المعرفة، والحقيقة، إلا الوجه الآخر لإرادة السلطة
والهيمنة (ص:255).
وبورديو عندما أقدم على وضع ما اعتاد المثقفون وضعه خارج
اهتماماتهم موضع اهتمام، وهو اهتماماتهم ورهاناتهم الخاصة، وذلك قصد القطيعة مع
هذا السلوك المتناقض الذي لا يعترف بتناقضات المثقفين ولا بتناقضات حقلهم الثقافي،
كان يعي بأن نزع الطابع السحري عن كون المثقفين سيقلقهم ويجرح نرجسيتهم، خصوصا
وأنه ينتمي إليهم وإلى كونهم الثقافي.
إن المثقف حسب بورديو هو المتكلم باسم المجتمع، والذي
ينتج التمثلات والخطابات، والذي يتحكم في التصنيف الاجتماعي، أي في تحديد معايير
الصنافة الاجتماعية السائدة فيه، غير أن هذا الانتاج للتمثلات والخطابات، وتحديد
الصنافات التي تتحدد من خلالها بنية المجتمع ومساراته في وعي الناس وواقعهم، لا
يعتبر عملا ثقافيا صرفا يحتكره المثقفون بتفويض ضمني كلي من أولئك الناس، بل يعتبر
في الآن نفسه عملا سياسيا، وبعدا أساسيا للصراع السياسي (ص:257). لكن الفرق بين
المثقف (رجل العلم) ورجل السياسة، هو كون التفويض الذي عند رجل السياسة هو فعلي
وبشكل تعاقدي (عبر الانتخاب)، بينما تفويض المثقف هو رمزي وبشكل ضمني.
لكننا قلنا سابقا بأن المثقف والسياسي هما منتجان لخطاب،
والفعل تابع للكلمات التي نعبر بها عنه، من هنا فإن خطاب السياسي هو خطاب مناضل،
يتحدث باسم المجتمع ويعبر عن همومه ومشاكله، خطاب يقدم للناس صورة عن واقعهم
وأحوالهم الخاصة، لكن عندما يعجز الناس عن مراقبة وممارسة سلطة الرقابة على أفعال
وأقوال المناضل التي ابتعدت عن الواقع وعن الهموم اليومية، والمشاكل التي يتخبطون
بها، يصيب هؤلاء الناس اليأس ويسقطون في نزعة تشاؤمية، ويميلون إلى اللامبالاة.
وبهذا فإن السياسي هو كذلك مثقف لكنه مثقف مسؤول مقابل المثقف الحر، وذلك كون خطاب
السياسي لابد وأن يتبعه الفعل لأنه خطاب سلطة، فلا يجوز له أن يتحدث دون فعل،
وأخطائه هي زلات تؤدي إلى مضاعفات ليس للسياسي فقط وإنما للمجتمع ككل. أما المثقف
رجل العلم فإن خطابه وإن أدى إلى مضاعفات فإنها لا تلزمه إلا لوحده.
ومن خلال كل ما سبق فإن المثقف الحر والمثقف المسؤول، رجل
العلم ورجل السياسة... يبدوان منخرطين في صراعات هذا العالم منغرسين في لعبه
الخطرة، منشغلين ــ إلى حد الهوس أحيانا ــ بالظفر بأرباح حقول تخصصهما، الأرباح
المادية والرمزية، مثلهما مثل الفاعلين الاجتماعيين كافة، الأمر الذي يجعل من
أطروحة مانهيم عن المثقف الذي يعيش في المجتمع من دون روابط ولا جذور، تبدو على
حقيقتها، باعتبارها أيديولوجيا مهنية للمثقفين، تحجب عنهم وعن غيرهم رؤية المنافع
والأرباح التي تحفزهم وتحركهم، في كون ثقافي لا نفعي يميل إلى احتقار المنافع
المادية أو إلى الحط من قدرها وقيمتها على الأقل... بل إن المثقفين يجدون منافعهم
الحقيقية في هذه اللانفعية ذاتها التي يتسم بها الحقل الثقافي (ص:259). وهنا
الحديث عن المناصب الأكاديمية، عقود النشر، قراءات الأعمال، علامات الاعتراف
والتبجيل التي لا يدركها من ليس عضوا في هذا الكون الثقافي.
هكذا فالحقل الثقافي (حسب بوردو) مبني على أساس التناقض
بين قطبي المال أو الثقافة من أجل المنافع الاقتصادية والتجارية، وقطب الثقافة
للثقافة، أو قطب الفن للفن. وبهذا فالأعمال التجارية التي تحقق نسب مبيعات كبيرة
ونجاحا على المستوى الاقتصادي تصبح في أسفل التصنيف إذا ما نظرنا إليها من وجهة
نظر المثقفين الذين ينتمون إلى الحقل... إننا الآن نتحدث على حقل له استقلالية،
وقوانينه الخاصة، وسلطه الثقافية النوعية، وهو الذي يملك الحق في ترتيب الأعمال
ومؤلفيها ومبدعيها.
المثقفون يتوزعون إذن إلى نوعين/صنفين: مثقفون مزيفون أو
أشباه مثقفين لأن أعمالهم تظل تابعة لهذا الحد أو ذاك إلى قواعد اشتغال حقول أخرى
كالسياسة والتجارة والدين... وهم لا يحضون باعتراف زملائهم داخل الحقل الثقافي؛
ومثقفون حقيقيون ينالون اعتراف زملائهم في هذا الحقل، انطلاقا من قيم الحقل ذاته.
هؤلاء غيورون على استقلال حقلهم الثقافي رغم كون أعمالهم قد لا تحظى بالرواج
التجاري، فهم يكتبون ضد كل السلط يكتبون لزملائهم.
إن الفرق بين نمطي المثقفين، الحقيقيين وأشباه المثقفين،
يكمن في كون النمط الأول يعتمد في صنافته على الداخل، أي على مثقفي الحقل، بينما
مثقفي النمط الثاني يعتمدون على صنافة برانية من خارج الحقل الثقافي. ومن هنا كما
سبقت الاشارة فإنه كلما كانت أعمال مثقف ما مربحة تجاريا وخاضعة لمنطق السوق كلما
نزلت قيمتها في بورصة المثقفين لأجل الثقافة، أي عند مثقفي الحقل/الداخل، لتصبح
مبتذلة وتافهة ويصنف صاحبها في مرتبة أدنى داخل فضاء السلطة الخاص بالحقل الثقافي
الذي لا يعترف إلا بالمنافع الرمزية، متجاهلا منكرا ومخفيا وراء ألف حجاب المنافع
المادية متى وجدت.
وفي هذا السياق يرى بورديو بأن النجاح الذي حققته روايات
زولا تجاريا كان سيحط من قيمته الرمزية داخل فضاء الممكنات الثقافية، لو لم يتخذ
موقفا من قضية دريفوس، ذلك الموقف الذي دفعه إلى بعث رسالته الشهيرة "إني
أتهم" إلى رئيس الجمهورية الفرنسية. وبهذا الموقف حسب بورديو فإن استقلالية
الحقل الثقافي قد اكتملت، وذلك عبر سيرورة طويلة، وهذا الاكتمال لم يكن له أن يحدث
إلا عندما تحرر المثقف من تبعيته إلى الحقول الأخرى، بل وأكثر من ذلك أصبح ينقل
قواعده ومعاييره إلى الحقول الأخرى ليمارس نوعا من رقابة المثقف على مجريات الحياة
اليومية، فرسالة زولا هي عنوان لمرحلة كون المثقف أصبح يسائل السياسي، ويفرض عليه
معايير الحقل الثقافي المتمثلة في البحث عن الحقيقة. إن ولادة المثقف إذن قد
اكتملت مع موقف إميل زولا، حيث من خلالها كما أشرنا اكتملت سيرورة التمايز
الاجتماعي التي بموجبها تمت عملية استقلال الحقل الثقافي.
والحقل الثقافي حسب بورديو لم يستقل دفعة واحدة وإنما من
خلال سيرورة تاريخية طويلة عرفت قطائع عدة، حيث استقل الحقل الفلسفي حقل اللوغوس
عن الميتوس منذ القرن 5 و 6 قبل الميلاد (ما كتبه أفلاطون على باب أكاديميته
كمثال)، واستقل الحقل العلمي عن الفلسفة منذ عصر النهضة والأنوار، واستقلت العلوم
الاجتماعية والانسانية بذاتها منذ القرن 19، بينما الحقل الأدبي والفني لم يحقق
استقلاله بذاته إلا مع ثمانينيات القرن 19، واستقلال هذا الأخير هو الذي أكمل
سيرورة الاستقلال بالنسبة للحقل الثقافي ككل.
ويوجز بورديو أبرز شروط هذا الاكتمال في:
1-
ظهور سوق واسعة للقراء، تتعدد أذواق القراء
المحتملين فيها...
2-
بروز الكتاب والمبدعين والمفكرين الذين يستطيعون
ضمان عيشهم بواسطة انتاجهم الثقافي (ص:266).
مع بيير بورديو فإن التحليل السوسيولوجي يبلغ مداه
الأقصى حيث لا يكتفي برصد المحطات التاريخية، بل إنه تحليل يروم نزع الأقنعة إذا
ما نحن استعرنا لغة نيتشه. فزولا كما رأينا رغم أن انتاجاته كانت مربحة ماديا، فهو
قد حظي بالتقدير من طرف زملائه في الحقل الأدبي والثقافي وذلك بسبب موقفه من قضية
دريفوس، لكن بورديو يذهب إلى أبعد من ذلك ليقول بأن زولا لم يكن في الحقيقة (من
وجهة نظر سوسيوجينيالوجية) يدافع عن دريفوس وإنما كان يدافع عن استقلالية الحقل
الثقافي، وضد تبعيته للحقول الأخرى وخصوصا للحقل السياسي. فزولا قد جعل من قيم
الحقل الثقافي والتي تتمثل أسماها في البحث عن الحقيقة والجهر بها قيما كونية.
وبهذا فإن سوسيولوجيا المثقفين قد كشفت بنوع من التحليل
النقدي الجينيالوجي، عن شروط انبثاق المثقف في نهاية القرن 19، كشفا أدى إلى
انقشاع الطابع السحري عن كون المثقفين (بكل ما يتضمنه من بطولات وتضحيات ونبوءات)،
فأصبح يبدو على حقيقته: كونا عاديا طبيعيا، ينتمي إلى هذا العالم الذي تصنعه
التناقضات والصراعات، وتحركه الرغبة الجامحة إلى المزيد من السلطة والنفوذ، حتى
وهي تعبر عن نفسها لدى المثقفين بلغة الزهد في الأرباح والمنافع المادية
والسياسية. إذا كانت سوسيولوجيا المثقفين قد كشفت القناع عن ذلك كله، فإنها تكشف
أيضا مختلف الأقنعة الأيديولوجية التي تسربل بها وجه المثقف الكوني، الكلي، وارث
سر المثقف الدريفوسي الملتزم بالدفاع عن القيم الكونية، على النحو الذي تجسد به في
شخص جان بول سارتر (ص:268).
وإذا كان سارتر قد استطاع أن يجمع في شخصه ما تفرق في
غيره، حيث جمع بين الفيلسوف، والروائي، والعالم الانساني... فإن ذلك قد أصبح
مستحيلا بعد عملية الاستقلال الذي عرفته الحقول، بل وبعد التجزئة التي عرفها كل
حقل على حدى، هذا ما أدى إلى نقد المثقف الكلي وبروز شخص المثقف الخصوصي مع فوكو.
وبورديو وإن كان على اتفاق مع فوكو في ضرورة بروز المثقف الخصوصي فإنه قد عمل على
تجاوزه من خلال طرحه للمثقف الجماعي، وهو: المثقف الذي يتشكل من تجميع المثقفين
الخصوصيين، لينخرطوا في عمل جماعي، لا في البلد الواحد فحسب، بل في بلدان العالم
كله أيضا، في إطار ما سماه بورديو بالنزعة النقابية للشمول الانساني، أو إن شئت في
إطار أممية للمثقفين، شعارها يا مثقفي العالم اتحدوا (ص:273).
لكن استقلالية الحقل الثقافي ــ يقول بورديوــ قد باتت
مهددة، حيث تتظافر السلط الداخلية التي تسيطر على وسائل إنتاج الأعمال الثقافية
وتوزيعها، وتداولها وتكريسها، من صحافة وتلفزيون وإذاعة، ومطابع ودور نشر
وتوزيع... والسلط الخارجية من شركات ومشاريع اقتصادية كبرى، ودولة ومؤسسات دينية،
للقضاء على استقلال الحقل الثقافي، ومراقبته بممارسة ضروب من المنع والابعاد
الداخلي والخارجي، قصد التحكم في ما يمكن التفكير فيه، وما لا يمكن التفكير فيه،
وفي ما يمكن قوله وأسلوب قوله، وما لا يمكن قوله، وتهميش المثقفين وإقصائهم من
التدخل في مناقشة القضايا الكبرى لبلدانهم وللبشرية جمعاء (ص:276)، والهدف هو
تدجين المثقفين والقضاء على استقلالية حقلهم.
من هنا جاءت دعوة بورديو إلى تشكيل جبهة ضد هذا الميل
الجارف الذي يطال كل المجتمعات الحديثة، جبهة تهدف الدفاع عن المثقفين وعلى
استمرار وجودهم. وهذه المقاومة رغم كون مثقفيها يدافعون عن القيم الكونية (التي هي
قيم حقلهم الثقافي) فإنها تراعي الخصوصي والمحلي، سواء بالنسبة للحقول، وبالنسبة
لتاريخ البلدان وعلاقتها بالحقل السياسي، فقد تتخذ هذه المقاومة شكلا دينيا هنا،
وشكلا علمانيا هناك، بيد أنها تبقى مقاومة واحدة تسعى إلى تحقيق مطلب الاستقلال
الذاتي النسبي (للحقل الثقافي) الذي من دونه لا يوجد لا حقل ثقافي، ولا مثقفون،
ولا سلطة ثقافية نقدية من شأنها أن تؤدي إلى سلطة مضادة تحتاجها المجتمعات الحديثة
في إنتاج نظامها الديمقراطي.
إذن ــ يقول بورديوــ لابد للمثقفين أن يكافحوا في إطار
هذا التنظيم الأممي الحِرَفي للمثقفين، كفاحا متواصلا من أجل تحقيق برنامج عمل
جماعي يتمثل في:
-
تدعيم
القطيعة مع المثقفين التابعين...
- وضمان الشروط الاقتصادية
والاجتماعية لاستقلالهم الذاتي...
- وتخليص المنتجين الثقافيين من
إغراء البرج العاجي، بتشجيعهم على النضال، على أقل تقدير...(ص:280).
لكن هذا وحده لا يكفي بل إن بورديو يدعو إلى أن يجري
المثقفون الخصوصيون العاملون في كل قطاعات الانتاج الثقافي على أنفسهم نوعا من
التحليل الاجتماعي التاريخي الذي من شأنه أن يحررهم من سيطرة لاوعي تاريخي أودعه
تاريخ مجتمعاتهم، وتاريخ حقولهم الثقافية، في ثنايا دماغهم وجسدهم... لاوعي تاريخي
متكون من مختلف تجارب المثقفين خلال الأزمنة الماضية، وقد تحولت من التاريخ
المتجسد في الأشياء (والمؤسسات والمنشآت والوقائع) إلى التاريخ المتشيء في الأجساد
والفاعلين على شكل تطبعات، أي على شكل استعدادات ومبادئ وخطاطات وأشكال للتفكير
والاختيار والفعل... ومن دون هذا التحليل الذاتي... لن يتمكن المثقفون الخصوصيون..
من تجميع طاقاتهم في مثقف جماعي (ص:281).
تبقى هذه دعوة من طرف بورديو، لكن ملاحظة ما يجري في
المشهد الثقافي للمجتمعات المعاصرة ، يثبت أن عددا من المثقفين ما زالوا أسيري ذلك
الخيار المفوت تاريخيا، وهم يتخذون اليوم في مواجهة المد الجارف الذي يهدد استمرار
وجودهم بصفتهم مثقفين، إما موقف المثقف المنزوي في برجه العاجي، أو موقف المثقف
العضوي (ص:281)، بمعنى اتخاذ موقف المثقف الذي يتقي شرور السياسة والسياسيين،
والمثقف الذي يتعصب للقيام بوظائف سياسية أي للالتزام السياسي. ومن هنا تبدو ضرورة
أن يتخذ المثقفون موقفا نقديا من أنفسهم، وإلا فإنهم سيكررون بكيفيات جديدة وفي
شروط مغايرة، مختلف المواقف التي وقفتها فئات من المثقفين عبر التاريخ، ابتداء من
رفض السياسة، والعودة إلى الدين، وانتهاء بمقاومة أعمال سلطة سياسية معادية للشؤون
الثقافية، ومرورا بالثورة على سيطرة ما يسمى اليوم بوسائل الاعلام، أو التخلي خائب
الأمل المتحرر من الأوهام عن اليوتبيات الثورية (ص:282).
ومن هنا يمكننا الختم ـ مع ذ. حيمرــ بطرح التسائل
التالي: أليس المثقف الجماعي الذي نادى به بورديو، ما هو إلا خلاصة جدلية للمثقف
الكلي (سارتر)، وللمثقف الخصوصي (فوكو)؟
كيفما
كان جوابنا، بالنفي أو الإيجاب، فإننا لن نستطيع نكران كون المثقف الجماعي هو
تجاوز لهما معا، وتركيب سوسيولوجي نقدي هدفه البحث فيما وراء الخفي والمعلن. هذا
هو بورديو الذي يشك في كل شيء، وبالأخص في قناعات الناس وما تعودوا على التسليم به
(كلما قرأت لبورديو إلا وتذكرت سقراط، أفلا يمكننا القول بأن بورديو هو سقراط
السوسيولوجيا؟ ).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق